قضاء وقدر 3-بقلم :نور

قضاء وقدر 3 - انتقامات

كثيرا ما كان ينتابني شعور بالغيظ والحنق حين أفكر بوجود فتاة يهودية في صفنا وتجلس الى جانبي!!

كنت أشعر وكأن حريتي وحرية زملائي مكبوتة, غير واضحة وعلنية, وكأننا, قبيل فعل شيء, نشعر بالأعين والألسن تتربص بنا من كل جانب!

لدهشتي الشديدة والشديدة جدا, وجدتُ نفسي لا آبه بتلك الفترة سوى بـ "فلسطين", وكأنني كبرتُ وما عدتُ تلك الطفلة التي تضحي من أجل صداقة زائفة وزائلة لا محالة! وكأن نتلي بعقد نجمة داوود الاسرائيلية التي لا تفارق عنقها لا تعني لي شيئا, وكأنها بعلم إسرائيل الأزرق الذي يطوق جدران حجرتها لا تهمني! ولا توقظ في نفسي شيئا, وكأنها بأفكارها التافهة الشاذّة لا تحرك فيّ ساكنا!!

كان لي زميل "عبقري" ويتمتع بكاريزما جنونية عند الحديث! عندما يستهل بالنطق, تتسمر العيون والآذان لتسمع, لتفقه! مهما كان ما يقول غير جدير بالاستماع ولا يسترعي الانتباه والنظر! بطريقته وخرزماتيته كان يجذبنا جميعا كي نستمع له دون أن ننبس ببنت شفة. وكما قلت, كان هذا الزميل "عبقري" بمعنى الكلمة, وشاعر من الدرجة الأولى! شاعر مقاوم وفلسطيني أصيل! والكلمات في قصائده لها وقع شديد ومؤثر على الآذان. كانت كلماته تذكرني بمظفر النواب –الآن, فلم أكن مهتمة بالشعر كثيرا وقتها-, قصائده وكلماته لاذعة جدا وغاية بالجرح والشماتة باليهود.

كانت نتلي تجلس إلى جانبي, وذاك الزميل من ورائي وبدأ بإلقاء أحد قصائده!

ألقى على مسامعنا ما أنزل الله به من سلطان.. كلمات وجمل.. عبارات وأوصاف.. تصفيق وهتاف من كل حدب وصوب! صفق الصف ومنهم من حيّاه بالصفير هنا وهناك! ونتلي بوجهها المتهجم تنظر إلينا بحنق تارة وبكره تارة أخرى!

أذكر مرة, كنا في استراحة الأكل, وكنا نجلس أنا وزملائي مجتمعين, ومن الجهة الأخرى كانت تجلس نتلي وحيدة, فعلاقتي بها بدأت تتدهور. وكان بيننا زميل, لا أدري كيف من الممكن أن أصفه لكم!! كان "جامد" بعض الشيء, ولا ينطق سوى "جواهر"!!

أي.. كان قليل الكلام "ولا يعجبه العجب ولا الصيام برجب"! كان من هذا النوع الذي يستهزئ ويستخف بكل شيء! وكان يعلم عن التوتر الذي يسود الصف بيننا وبين نتلي. وما كان يميز هذا الزميل, أنه إلى جانب قلة كلامه, كان حكيما! فكان يعلم تماما ما يقول ومتى يقول! مثلا, عندما يسود الصف الصمت المدقع, يفطن أن ينطق! وكلماته دائما "على الوجع" أي تضرب بالوتر الحساس! وأذكر أني لم أسمعه مرة يتحدث ولم أضحك عليه حتى نزلت الدموع من مقلتي من شدة الضحك!!

كنا نجلس ونتحدث في أمور شتى.. وفجأة, قام هذا الزميل وقال بسخرية تقتلك من الضحك:

" يا ريت يطلع هتلر من قبره ويقتل كل يهود العالم!!"!!! احتدم الصراع, تعكر الجوّ, واستفحلت المشاحنات وازداد الهواء اضطرابا..

بالرغم من أني ضحكت, إلا أنني ندمت بعدها! فأنا لم أكن لأقبل أن يجرحني أحد وبهذه الطريقة, ولكني.. ضحكت!! جميعنا ضحكنا, ومنا من افترش الأرض من كثرة الضحك والسعال!!

أما نتلي, فنهضت والشرر يتطاير من عينيها, بجبينها المقطب, ونجمة إسرائيل تترنح من على صدرها, وخرجت وقد صفعته بقوة! وشعرنا أننا أحرزنا انتصارا عظيما وساحقا وكم سعدنا لروية ردة فعلها تلك!!! وانتهى الموقف بسلام!!

لدي ذكرى لا تبرح من مخيلتي! مرة كنا في درس اللغة العبرية, وأستاذ العبرية هذا, اشعر أحيانا انه يعشق اليهود ويقدسهم ويرى فيهم مثال الشعب المتحضر العاقل! وكثيرا ما كان يستخف الطلاب بهذا الأستاذ, فهو لم يكن ذو شخصية قوية! بل ضعيف جدا وقليل السيطرة!

أذكر أننا كنا في الصف التاسع, وكان يوم النكبة! –الاستقلال لدى نتلي-!

فقامت نتلي –لتقهرنا-, وأخرجت كتاب المدنيات من حقيبتها والذي يحوي النشيد الوطني الإسرائيلي - هتيكفا-, أي الأمل. وطلبت نتلي من الأستاذ قراءته أمام الصف! فهو يوم الاستقلال –على حدّ قولها-!!!

وقتها, شعرت بالغثيان منها, أردت لو أصفعها وألصقها بالحائط, وددت لو أبصق بوجهها, ولكني تمالكت نفسي قليلا كي لا أقلل من احترام الأستاذ الواقف أمامي, وبعد الدرس, قمتُ أنا ورناد وتوجهنا لمربية الصف وبدورها توجهت للأستاذ وكاد أن يصل الأمر للمدير! حدثناها عن الأستاذ المتنكر لأصله, الذي بدل أن يحدثنا عن النكبة وتاريخنا وشعبنا ومعاناتنا, قام وقرأ لنا النشيد الوطني الإسرائيلي المشئوم!!!! يومها, قامت المربية بالحديث مع الأستاذ وقام بالاعتذار منا, ونتلي تنخر بها سوسة الغيظ والحقد والكره!!!

في بداية مراحل كتاباتي للشعر, كان شعرا متواضعا كثيرا –على قدّي-, وكالكثيرين من –الشعراء الصغار- كنتُ أحب إلزام القافية في كل قصائدي, وأهم ما في نظري كان, أن تكون القصيدة ذات قافية, وأذكر العديد من القصائد التي كتبتها أنا ورناد. وكانت المعلمة أحيانا تقرأ أمام الصف بعض من قصائدنا, وكي لا تثير نتلي, كانت تحرّف القصائد!!!! فهذه المعلمة كانت حريصة على جميع الطلاب, ولكننا –أنا ورناد- كنا نتعمد إغاظتها هي ونتلي, ونقرأ القصائد بصوت عالٍ ومسموع أمام الجميع.

في فترة معينة, كانت نتلي تجلس بالصف بالنسبة لي كالهواء الذي لا أستنشقه, أي لم تكن تعني لي شيء ولم أكن أكلمها, والعلاقة بيننا احتدمت كثيرا وأصبحت مستحيلة! وخاصة بعد أن انفصل والداها وانتقلت لتعيش مع أمها وأخواتها ببيت جدها في إحدى القرى اليهودية, وقد ازدادت عنصريتها, واحتدم كرهها لنا! وأصبحت هذه اليهودية –التي خُدعنا بها- تظهر على حقيقتها من ناحية الكلام, التعامل, اللباس, الفكر...

وانتهت هذه العلاقة.. هكذا شاء القدر, وتوّجت نهايتها بالفشل, علاقة دامت ست سنوات تقريبا, توّجت بالفشل الذريع, علاقة شهدت ما لا يطاق وما يطاق! علاقة كقصة أو أسطورة, كلحن حزين أو..

ولكنني لا أخفيكم.. كنت اشتاق لها بين الفينة والأخرى.. ولكنني لم أعد أكن لها الحب السابق..

(يتبع.. الجزء الأخير)

رائـــعــتي نـــــور
في حياتنا نمر بالكثير من الأشخاص , سواء رضينا أم أبينا ..ثمة أشخاص يتركون بصمة .. وآخرون يمرون ولا يتركون شيئا .. وأشخاص تعصف الحياة بك عندما تقابلهم.. وتتغير مسيرتك .. للأفضل .. أو للأسوأ… شاء القدر أن يجمع بيننا وبين نتلي ليقلب حياتنا رأسا على عقب , تلك الفتاة غريبة الأطوار , متقلبة المزاج , صارمة في قراراتها ولا تبدل عن رأي ...
كل ما نسجته في هذه الصفحة أذكره , كنت أقرأ وأصور شريط الأحداث أمامي , جميلة هي الذكريات حتى لو كانت قاسية , انزعجت كثيرا عندما تذكرت ذاك الرجل الذي يُدعى "شادي" , لم أنعته باستاذ لأنه لا يستحق هذه الكلمة ولا تناسبه , فالاستاذ بدوره يكون قدوة وأسوة للطلاب ويعلمهم القيم وأصول الحياة , لا يعلمهم النشيد الوطني العبري ..
أذكر انني ابتسمت حين اعتذر هذا الرجل منا ومن الصف امام المربية وامام نتلي , وقد شعرت بطعم الانتصار اللذيذ ..

وأذكر عندما كانت معلمتنا تُحرّف قصائدنا وتجعلها أقل قسوة , وكلهذا مراعاة لشعور البعض ومنهم نتلي

رائع هو سردك يا بنت أمــي
مشوق
كلماتك هي يا صديقة سطور في كتاب الحياه , علمها من علم وجهلها من جهل...
دُمــتِ ودامت ذكرياتنا التي نتقسام الحديث عنها كل ثلاث أو اربع ايام , كعادتنا , حين ينتابنا جنون الفتيات!!
أنتظر سردك الأخير بشغف شديد..
لا تُطيلي علينا الانتظار..
شكرالك

[/b]

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
تحية الاسلام
جزاك الله جنة الفردوس الاعلى التي اعدت للمتقين
نفع الله بك الاسلام والمسلمين وادامك ذخرا لمنبرنا الشامخ شموخ
ارز لبنان
ان كل مفردات ثقافتي لا تفيك حقك من الشكر والاجلال والتقدير
لك مني عاطر التحية واطيب المنى
دمت بحفظ المولى

نور ، أسلوبك القصصي متقدم وفي تطور مستمر، موضوع مثير وعرض جميل، وابداع مستحسن، وألق بديع، وسطوة الاديب المحببة، حين يفرض على القاريء الصورة التي يريد، ويرسم له الخيال الذي يبغي، ويحدد له معالم الافق الذي يريد له ان يهيم به.

بانتظار الجزء القادم

أصدقائي الأعزاء.. أشكر لكم مروركم المتواضع في صفحتي..

رناد: من يقرأنا يظننا قد شارفنا الموت يا صديقتي, أشعر بأن نتلي جعلتني أكبر كثيرا
الشاعر لطفي الياسيني: شكر لمرورك
جواز سفر: شكرا لتشجيعك المستمر وردودك الرائعة

» قضاء وقدر (1), بقلم: نـور
» قضاء وقدر (2), بقلم: نـور
» قضاء وقدر
» القرى المهجرة في قضاء حيفا * الجزء الثاني*
» بيت عزاء, بقلم: نور