لم يكن ينقص غزة إلا القتل بالغاز السام ليكتمل تشبيه المحرقة. قتلت الحكومة المصرية الأسبوع الماضى أربعة فلسطينيين. قتلتهم بالغاز، أو كادت تدفنهم أحياء بتفجير نفق تحت الحدود كانوا فيه. هذا ما اتهمها به الناس، وفى دفاعها عن نفسها، قالت الحكومة المصرية إنها قتلت الأربعة لا بتفجيرها نفقهم بل نفقا مجاورا أدى تفجيره لانهيار نفقهم. الأربعة كانوا يسعون لرزقهم.
والناس تسعى لأرزاقها فى غير الأنفاق عادة، ولكن الحكومة المصرية اضطرت أهل غزة أن يسعوا لأرزاقهم فى أنفاق يحفرونها تحت الأرض. تقول الحكومة إنها تحمى أمنها القومى منهم فتغلق حدودها فى وجههم، كأن الفلسطينيين إذا شبعوا أصبحوا مصدرا للتهديد، وإذا جاعوا أصبحوا مصدرا للأمن، وهى الحكومة الوحيدة على حد علمى التى تحسب أن شبع الناس أكثر تهديدا لها من جوعهم. وإن كانت الحكومة تحسب أن إجاعة الناس وإهانتهم توفر لها أمنا قوميا، فلا أعرف كيف تظن قتل أولادهم مصدرا للأمن، فالموتى فى بلادنا أخطر من الأحياء، لأن الموتى لا يكفون عن المطالبة والسؤال، ولا يمكن لأحد أن يسكتهم.
ولقتل الناس بالغاز تاريخ، بدأه الألمان فى الحرب العالمية الأولى، ثم طوروه فى الحرب العالمية الثانية ليصبح عملية إعدام منهجية لإبادة جنس كامل، وقد تعرض الأوروبيون اليهود والغجر وأسرى الحرب من الاتحاد السوفييتى لعمليات الإبادة هذه. على أن الحكومة الألمانية لن تكن تأمن قتلاها بل تخافهم. ولا أعنى انها كانت تخاف الجيش الأحمر أو رجال الأعمال اليهود فى الولايات المتحدة، بل تخاف سجناءها نزلاء معسكرات الاعتقال والإبادة.
إن تصميم معسكرات الاعتقال كان نتاج عملية طويلة من التجربة والخطأ والدراسة العلمية المتأنية التى قام بها موظفون إداريون نازيون، ببرودة دم وأعصاب، كأنهم يخططون لمصنع أو مطار، وكان الأمن، أمن الدولة النازية، هاجسهم الأول. فى مركز المعسكر برج للمراقبة، تتفرع منه كالأصابع من الكف، صفوف من الأكواخ الصغيرة المحصنة، إذا خرج أى جسم من أى كوخ فإن الجندى الناظر من البرج يراه، ويطلق النار عليه.
الأكواخ لها تصميم داخلى واحد، أرفف كأرفف الكتب، مقسمة بحوائط طولية، فيكون الرف مجموعة من العلب أو التوابيت المفتوحة من جانبها الأيمن أو الأيسر، وفى كل علبة ثلاثة أسرى، وفى السنين الأخيرة من الحرب، كان الأسرى يضغطون فيكون فى العلبة تسعة.
الأسرى يعملون فى مصانع تابعة لإدارة القوات الخاصة الألمانية، وهى ذات القوات التى تحتجزهم وتعذبهم، وقد قام أطباء الحكومة بحساب عدد السعرات الحرارية التى يستهلكها الأسير فى عمله أثناء اليوم، وأمروا بتقديم وجبات للأسرى تحتوى على نصف هذا العدد من السعرات، لكى يضمنوا أن يصيب الهزال الأسرى، فيموتون تدريجيا، وهم إلى أن يموتوا، يعملون وينتجون السلع لجلاديهم.
ثم ما إن يتساقط الأسير بحيث لا تبقى فيه قدرة على العمل، فإنهم يدخلونه إلى أفران الغاز.
وللأفران شروطها، فالأسرى الواردون حديثا إلى معسكر الاعتقال، يفرزون، الأطفال كلهم يذهبون إلى أفران الغاز مباشرة، لأنهم غير قادرين على العمل وبالتالى لا فائدة يرجوها النازيون منهم، أما الكبار، النساء منهم والرجال، فيؤخذ المرضى والضعفاء منهم إلى الأفران مباشرة، والأقوياء يدخلون فى سلك الخدمة، ويعملون إلى أن يضعفوا ثم يؤخذون بعد ذلك إلى الأفران.
على أن أحدا من الأسرى لم يكن يعرف أنه سيعدم بالغاز، كانوا يقولون لهم إنهم ذاهبون للاستحمام، ويطلبون منهم أن يخلعوا ملابسهم، وأن يطووها ثم يسلموها للجنود، بعد ذلك يعطيهم الحرس قطع الصابون، ويدخلونهم إلى قاعة كبيرة تتدلى من سقفها مواسير وأنابيب فيها رءوس كرءوس الصنابير ورشاشات المياه المعتادة فى الحمامات. وما إن يدخلوا، حتى تغلق الأبواب ثم ترمى عليهم كبسولات من المادة السامة وترش عليهم بدلا من الماء.
والغاز المستخدم فى هذه العملية كان يستخدم أصلا كمبيد حشرى. وفى شهادات الأسرى الناجين من الأفران، وهم الذين سقطت معسكراتهم فى أيدى قوات الحلفاء قبل أن يفلح النازيون فى إعدامهم، أنهم كانوا يسمعون صراخ الأسرى فى قاعة الغاز، يشتد تدريجيا ثم يخفت حتى يختفى.
هذا كله معروف فى سجلات الحرب العالمية الثانية وموثق فى محاكمات نورنبرج وعشرات الأبحاث والشهادات والأفلام الوثائقية حول العالم. لكن ما أريد الإشارة إليه ها هنا، هو أن الجنود النازيين كانوا يكذبون على الأسرى، ويخبرونهم أنهم ذاهبون للاستحمام، لماذا؟، ما الذى يضطر الجنود، وهم أصحاب القوة المطلقة، وسلطة الحياة والموت، ما الذى يضطرهم أن يكذبوا.
إنهم خائفون، لقد كانوا يخافون من أسراهم الناحلين الجائعين الموتى فى الحياة السائرين على أرجل لا تكاد ترى من هزالها، كان جيش ألمانيا يخافهم. ولا أقصد أن خوف الجنود كان نابعا من إحساس ما بالذنب أو أنه كان توقعا لعقاب غيبى على ما يصنعون، بل لقد كان خوفا واقعيا جدا حتى بالمقاييس العسكرية، إن الأسرى على ضعفهم كانوا أكثر أعدادا بكثير من سجانيهم، بل إن أعدادهم كانت تزيد على عدد الرصاص الحى بحوزة الجنود، فلو أنهم ثاروا جميعا مرة واحدة فإن بعضهم سيقتل لكن أكثرهم كانوا سينجون. كان ثمة احتمال غير بسيط أن يسيطروا على المعسكر.
لم يكن يمنع الأسرى أن يفعلو ذلك إلا أن كل واحد منهم كان يخاف أن يكون فى النفر المقتولين لا الناجين، وكان يرجو الفرج من السماء أو جيوش الحلفاء. إن الأمل فى الحياة كان وسيلة للقتل. لهذا كان الجنود يكذبون، لأن الإنسان إذا كان يعلم علم اليقين أنه مقتول لا محالة فإنه يقاوم، والمقاومة تخيف الظالم لأن الظالم قليل، قليل فى نفسه ومروءته وقليل عدد جنوده بالقياس إلى عدد ضحاياه.
لذلك ما زلت أعجب من الذى يظن أن شعبا جائعا ومحاصرا ومقصوفا ومهددا بالإبادة يمكن تدجينه وتأمينه إذا أيأسته الجدران العازلة والغازات السامة من الحياة.إذا أبلغتم الناس مبلغهم من اليأس فخافوا، فإن اليائس غير مأمون.