حرب الأمة
بقلم: د. تميم البرغوثي
أقول كلامي هذا دارساً للعلوم السياسية، لا شاعراً ولا وطنياً ولا عربياً ولا مسلماً: إن المقاومة الإسلامية، الجناح العسكري لحزب الله اللبناني، بقيادة أمينه العام السيد حسن نصر الله قد قضت على دولة إسرائيل. وقد يبدو الكلام للوهلة الأولى أماني وأحلاماً أو مبالغة خطابية، غير أنني أعني ما أقول تماماً، وسأبين أدناه لماذا أعتقد أن حزب الله سينتصر في هذه الحرب، ولماذا أعتقد أن انتصاره فيها سيؤدي، بقوة المثل والنموذج، إلى القضاء على إسرائيل، ولو بعد حين.
أما الحرب القائمة اليوم، فلن أجادل في أن إسرائيل تملك من القدرات العسكرية ما قد تهزم به عدة جيوش عربية مجتمعة، ولكنها عاجزة أمام المنظمات الفدائية التي تستدرجها في حرب مدن أو أحراش في مناطق ذات كثافة سكانية. ذاك أن جيش اسرائيل، كأي مؤسسة صناعية متقدمة، لا يعتمد على العدد بقدر ما يعتمد على العدة، وحرب المدن والأحراش تستدعي من الجيش القائم بالاحتلال أن يعمل عمل الشرطة في تأمين المدينة وتأمين جنده فيها، وذلك يتطلب عدداً لا عدة وهو عند الغزاة قليل. ثم إن الاشتباك في المدن بين جنود الاحتلال والمقاومين يحيد أهم سلاح تتميز به إسرائيل على العرب وهو الطيران. فإن استُخدِم فإن ذلك يكون قبل الالتحام في حرب المدن وإدخال المشاة، لإنهم إن دخلوا واستمر القصف، قصف الجيش الغازي جنوده. ولا أثر كبيراً للغارات الجوية إلا على المدنيين في بيوتهم، لأن الطيران يعجز عن التقاط الفدائيين الأفراد خفاف الحركة، فإن كان استشهاد المدنيين، أي أنا وأنت، لا يفت في عضدهم ولا في عضد المقاومة بل يقويها، أصبح الطيران بلا قيمة، ولزم أن تدخل إلى المدن القوات البرية لتواجه انعدام ميزتها وتفوق المقاومين من أهل البلد عليها عدداً، ومعرفة بالمكان والسكان، وهذا يصح في لبنان كما يصح في غزة والعراق. وعليه فإن إسرائيل لا تقدر على الغزو البري في محيطها اليوم، فهي تتجنب الجنوب اللبناني وغزة ومناطق الكثافة السكانية والمقاومين المختبئين في الأزقة وغابات الزيتون، ولا يمكن أن يتغير شيئ من أهدافها المعلنة إلا بغزو بري سواء في ذلك الإفراج عن أسيريها، أو نزع سلاح حزب الله أو انسحابه شمالاً، فالقصف الجوي لا يغير شيئاً على الأرض كما أسلفنا. وذلك ينسحب على سوريا أيضاً، فأقصى ما يكون من إسرائيل أن تقصف سوريا جواً ولا يمكنها أن تحتل البلاد براً أو أن تغير من الإرادة السياسية فيها. أما إيران، فلا تستطيع إسرائيل المس بها بسبب سيطرة إيران على الوضع في العراق، وأمريكا لا تريد أن ينقلب عليها عبد العزيز الحكيم ومقتدى الصدر معاًً يؤمهما علي السيستاني. والرجال الثلاثة علاقتهم أوثق بإيران منها بالولايات المتحدة، ولن يتأخر سنة العراق عن محالفتهم إذا رأو أنهم صاروا إلى خندقهم بعد ما كانوا على شفا حفرة من النار. فإسرائيل إذن لا تملك احتلال لبنان، ولا قتال سوريا ولا إيران، فرهانها الوحيد هو أن يؤدي تدمير البنية التحتية بالحكومة اللبنانية إلى الضغط على حزب الله لتسليم سلاحه تنفيذاً لقرار مجلس الأمن 1559 كما تفهمه إسرائيل وحلفاؤها في لبنان، وهي سياسة حمقاء على قول السيد حسن، لأن الحكومة في لبنان لا تقدر أن تجبر حزب الله على شيئ تحت النار الإسرائيلية وإلا ركبتها الخيانة بما ينقض عليها سلطتها، فلا يطيعها حزب الله ولا غيره. والحكومة لا يسعها، والحال هذه، إلا أن تعد إسرائيل وعداً بنزع سلاح الحزب بعد أن توقف إسرائيل حربها لا قبل ذلك. فإن أوقفت إسرائيل حربها، يكون الحزب قد خرج منتصراً بما يزيد في قوته ولا تستطيع الحكومة بعدها ولا أية قوة أخرى في لبنان أن تفي بوعدها لإسرائيل وأن تنزع سلاحه. إذن فقد دخلت إسرائيل، كما ترى في مصيدة لا مخرج لها منها ، إلا كما قال السيد، بأن تفرج عن الأسرى، وتعود من حيث أتت.
أما بشأن الثمن الذي يدفعه لبنان فلا يزايدن أحد على أهالي الشهداء. إن من قتلتهم إسرائيل هم من شيعة الجنوب، وقلوبهم مع حزب الله، وهذه الطائفة من الناس قد بينت استعدادها للقتال، فأنا لا أفهم سنياً من بيروت أو مارونياً من الجبل، أو حاكماً عربياً، يلوم حزب الله في استشهادهم، بينما أهل الشهداء واولياء الدم منهم لا يلومونه ويؤازرونه. أما عن خسائر لبنان الاقتصادية فإن ريع النفط في أسبوع بعد ارتفاع أسعاره، يكفي أن يرد لبنان كما كان.
هذا عن انتصار حزب الله في الحرب القائمة الآن، أما كيف يقضي ذلك على إسرائيل فإنما يكون ذلك بقوة المثل والنموذج كما قلت. فالعبقرية في مثل حزب الله أنه ليس دولة، وليس مقيداً بالقيود القانونية والاقتصادية التي تقيد الدول، وأن انتصاره على إسرائيل معتمداً على تنظيم بديل للدولة العربية يحمل في طياته إمكانية هدم النظام الإقليمي من أساسه. فكما أسلفت، لا يستطيع الغزاة أن يواجهوا حركات المقاومة لنقص عددهم، فهم يلجأون عند ذلك إلى إنشاء دول في المناطق المغزوة تكون تابعة لهم اقتصادياً وسياسياً، فيكون لحكام هذه الدول مصلحة سياسية والتزام قانوني بتفكيك منظمات المقاومة. فالدول العربية، كمؤسسات، جزء من منظومة الاستعمار، وقد ولدت هي وإسرائيل من رحم استعمارية واحدة، والضامن لوجودها ولوجود إسرائيل نظام دولي حددت ملامحه بريطانيا وفرنسا قديماً، ثم الولايات المتحدة الآن. فإن سعت دولة عربية في محو إسرائيل تكون قد سعت في محو ذاتها، فكل الدول العربية مناطق عازلة بين الناس وغزاتهم. وهنا تكمن قوة المثل في الحرب الحالية فإن حزب الله أثبت عام ألفين أن منظمة شعبية، ليست بدولة، قادرة على هزيمة إسرائيل، وساهم ذلك في رفع معنويات الناس واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد أربعة أشهر فقط من تحرير جنوب لبنان، ويعلم الله ماذا سيؤدي إليه انتصار حزب الله اليوم من حسن اتباع الأمة لمثله ونموذجه. إن هذه الرسائل التي أرسلها حزب الله إلى الأمة واستقبلتها، ستعاني منها إسرائيل كثيراً في المستقبل، فإن إسرائيل حين قامت لم يكن في فلسطين أكثر من بضعة مئات من الآلاف من الناس، أما الآن فالميزان الديمغرافي قد تغير، وليس وضع الجندي اليهودي في جنوب لبنان بآمن منه في الجليل إذا انتظم عربه في حزب كحزب الله أو إذا امتد إليهم حزب الله فشملهم. إن تكرار نموذج حزب الله يحمل في طياته احتمال ان ينجح الناس في تنظيم أنفسهم في دول بديلة عن تلك التي يعترف بها القانون الدولي ويقيدها.
ويجدر بي القول، أنه لما كانت الحرب التي تهزم إسرائيل وتقضي عليها حرباً تخوضها الأمة، حين تنظم نفسها في أطر بديلة عن إطار الدولة التي خلقها الاستعمار وقيدها بقيود قانونية واقتصادية وحكَّم فيها أسافل الناس، فإنها تكون حرب معنويات أكثر منها حرب معدات. وهنا نشير إلى مفهوم ميزان الرعب الجديد على علم العلاقات الدولية، فمنذ خمسين عاماً بيننا وبين إسرائيل، نموت نحن، ويخافون هم، أعني أن قذيفة تسقط على قانا وتقتل أهلها لا تفيد إسرائيل شيئا على الصعيد السياسي، فلا تصبح إسرائيل بعد كل مجزرة آمن منها قبلها، بل يزيد الخطر عليها بزيادة من لهم عندها ثأر يطلبون به ثم يطلبه أولادهم. أما الصاروخ الذي يسقط في وسط حيفا فيدمر محطة قطارات او مصفاة نفط، حتى وإن لم يقتل أحداً، يدخل ثلاثة أرباع المليون إسرائيلي إلى الملاجئ، ويكلفهم من الخوف والحذر ما لا يطيقون معه العيش، وهم أحرص الناس على حياة، وحرصهم مقتلهم. ولما كانت فكرة إسرائيل أنها مأمن لليهود، فإن حروباً كهذه تجعلها أخطر مكان يكون فيه اليهودي في العالم، فينهدم مشروعها من أساسه.
وتبقى لحزب الله واحدة لا بد من ذكرها في باب المثل، فقد اعاد للأمة ثقتها بنفسها، وذكرها أن المقاومة الإسلامية لا تعني تدمير أجهزة التلفزيون والحواسب الآلية والعودة تقنيا إلى القرن الأول الهجري، بل إن نظاماً اجتماعياً مفتوحاً وقابلاً للتغير والتكيف يمكن أن يطلع من عباءة الثقافة العربية وإلإسلامية وروافدها وأن يكون ملهما لغير المسلمين من أهل هذه البلاد ويكون اقتراحاً على العالم كله.
أما الحكام العرب، فأقول لهم، لا تلزوا أنفسكم بين الأمة وأعدائها فلن يرضى عنكم العدو ولن ترضى عنكم أمتكم، تنحوا، فنحن أولياء الدم، وقد جعل الله لنا على عدونا سلطانا، أما أنتم فقد لحقكم عارها وأنتم أهل العار قديماً، وأقول لكم قولاً سمعه كل مملوك قبلكم فلم يفهمه، إن لم تكن فيكم بقية من دين فكونوا عرباً على أنسابكم، والله لقد استُحلت حرمكم وأنتم تنظرون، تخافون مما يلا يخيف، وتقدمون على العار إقدامكم على الماء والرغيف، وإن مراياكم تهجوكم كل صباح، غير أنكم قوم لا تعقلون.