السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه أول مشاركة لي في هذا المنتدى ، وأرجو أن تنال استحسانكم
نقلت لكم هذه الأسطر باختصار مما قرأته للأستاذ د. عبد الكريم بكار ، في كتابه " في إشراقه آية " حيث يوحي حفظه الله للقارئ بأسلوب جديد في فهم بعض آيات القران الكريم ، ويقول في مقدمة كتابه " لا أستطيع أن أقول إن ما كتبته في هذا الكتاب هو من قبيل التفسير لبعض آيات الذكر الحكيم ... وإنما هو نوع من الانغماس في ضيائه ... إننا سنظل ننهل من فيوض القرآن الكريم ... ما تعاقب الليل والنهار ... كلما نضجنا أكثر وعرفنا أكثر وجدنا أنفسنا أقدر على فهم القرآن الكريم والاستفادة من بركاته " .
( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم )
أنزل الله عز وجل في المنافقين صورة سميت باسمهم ...تخبر عن بعض صفاتهم .
فقد وصفهم الله تعالى بأن الناظر إليهم يعجب بجمال أجسامهم ... لكنهم كالهياكل الفارغة أشباح بلا أرواح ... إن ظاهر المنافق دائما خير من باطنه ... وهو ذلق اللسان ... كذاب ، وهو جميل الصورة .
ولما كان للظاهر سلطانه القوي في التأثير، علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ضرورة تجاوزه إلى المعاني الباطنة .
وتطرح هذه الآية الكريمة مسألة خطيرة في حياة الإنسانية عامة وحياة المسلمين خاصة هي قضية العلاقة بين الشكل والمضمون ، أو الجوهر والمظهر .
ونعني بالجوهر ابتداء : مجموع الخصائص الخلقية والنفسية والصور الذهنية والخبرات ...
أما المظهر : فهو مجموع ما يحمله الفرد من الصفات الجسمية ... وما يمتلكه... وما يشغله من وظائف .
في البداية ليس الجوهر والمظهر شيئين منفصلين انفصالا تاما ، بل بينهما علاقة تأثر وتأثير وأخذ وعطاء ... ومن ثم قيل " من كثرت صلاته بالليل ضاء وجهه بالنهار " وإذا كان بين الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب ... فإن من البدهي ألا يزهد الإسلام الناس في الشكل ، فالصلاة موقف روحي بحت ، ومع ذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتظام الصفوف فيها ، وحث على النظافة ، كما امتن الله تعالى بما نشعر به من التأنق عند غدو الأنعام ورواحها ، حيث قال سبحانه ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) .
إذن ما هي المشكلة ؟
تكمن المشكلة في اختلال التوازن بين الجوهر والمظهر ... وللمجتمع وما يقره من أعراف سلطان كبير على الناس، ولما كان الحكم الاجتماعي منصبا على الشكل كان الانحدار نحو الاهتمام بالشكل هو الأمر الطبيعي المتبادر إليه ، أما العناية بالجوهر فيمكن أن تنمو عن طريق التربية الخاصة في الأسرة أو المدرسة ، لكن ذلك سيظل ضعيف التأثير ما لم يكن المجتمع كله خاضعا لمبادئ عليا خارجة عن إنتاجه ، ولن يكون مصدرها حينئذ الأرض ، وإنما السماء !
حين يضعف الوازع الديني لدى المسلم فإن الميزان يميل مباشرة لصالح المظهر ، وبما أننا نعيش في عصر نتأثر فيه أكثر مما نؤثر فقد وقعنا تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب الحياة المختلفة ... وكانت النتيجة ولادة مجتمعات تعاني من الوحدة ، والقلق ، والاكتئاب ، والنزوع التدميري ، والخوف من المستقبل ، والأنانية الشخصية ، والتفكك الأسري .
تأثرنا نحن المسلمون بهذا كله ... وأهملنا الجوهر ... ويتجلى ذلك واضحا في أمور عديدة منها :
1. تناقصت الألفاظ المستعملة في الدلالة على الجوهر ، في حين زاد تداول الألفاظ الدالة على الأشياء ، فحديث المجالس لم يعد يتمحور حول البطولات ، والانجازات والمواقف الكريمة ، وإنما حول العقارات والسيارات وأسعار السلع والأثاث والأرصدة ...
2. الرغبة في مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من الاستهلاك ... ومن طبيعة هذا الشأن أن يزيد اهتمامنا بالمظاهر .
3. كانت قيمة وجود الإنسان مستمدة مما يحسن ويتقن ، ولكنها صارت الآن مستمدة من مقدار ما يملك ويستهلك ، وهذا ولد الخوف الدائم من ذهاب الملكية ، لأن ذهابها ذهاب لمالكها ، وأقتضى ذلك مزيدا من الشح والأثرة والتقاطع .
4. علاقتنا بالمعرفة تبدلت ،فقد كان حب العلم واكتساب المعرفة من أجل الفقه في الدين وتنمية الشخصية ومعرفة الحياة أما العلاقة الآن فقد صارت تجارية بحته ، فطالب العلم يتعلم الآن لينال الشهادة ...
5. السمات الأساسية للإنسان المهتم بالجوهر هي : الاستقلالية والحرية وحضور العقل النقدي ... والنمو ...لكن العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجديدة جعلت أنشطة الإنسان عبارة عن انشغال دائم مفصول عن قواه الروحية ... مما أدى إلى الاتكالية والسأم ، وجعل الحياة تفقد طعمها الحقيقي .
6. كان من عواقب الاتجاه إلى الشكل والتغافل عن المضمون كثرة اللذائذ وانعدام السعادة ، واللذة إشباع الرغبة على نحو لا يتطلب نشاطا مثل لذة الحصول على مزيد من الربح ... أما السعادة : فهي شعور مصاحب للنشاط الإنساني ... لأنها وهج لكينونة الإنسان ونشاطه الداخلي ، ويمكن القول : إن السعادة في مقياسنا الإسلامي تتعاظم كلما ردم المسلم من الفجوة بين معتقداته وسلوكياته ، حيث يرضى المسلم عن أدائه ، ويستشرف عاقبة المتقين .
كل هذه التحولات باتجاه الشكليات جعلت كثيرا من أمة الإسلام قوة عددية ليس غير ... وعلى الله قصد السبيل .
د. عبد الكريم بكار