«زهري! أصفر!». .
أشارت بإصبعها الصغير إلى بقعة من السماء تنكشف لهما عبر نافذة الغرفة، وقالت: «هناك قوس قزح انظري»إلاّ أن الأم بقيت محدّقة في عيني طفلتها الخضراوين، حيث قوس القزح الذي لا يزول لكنها أصرّت: «ماما! أنظري، أنظري!».
نظرت في عينيها مرّة أخيرة، ثم نحو السماء نظرت بإمعان كمن يريد بشتّى الطرق أن تكذب عيناه,نظرت مجدداً لكن السماء صافية لا تشوبها شائبة.
«أين هو قوس قزح؟»، قالت في نفسها, نظرت إلى قوس القزح خاصتّها، فوجدت عينيها مغمضتين. قبّلت جبينها وردّدت بصوت خفيف: «آه، قوس قزح. كم هو جميل». وتراءى لها أنها ابتسمت، فتركتها تنام.
الأطفال لا يكذبون. .
***
رشا أجمل شابّات الحارة: سمرة بشرتها الناعمة، عشوائية الشامات في وجهها المدوّر، أحمر الشفاه الذي تتزيّن به في المناسبات وفي غير المناسبات، شعرها الأسود الطويل المتدلي خصلاً ثقيلة على كتفيها العريضتين
لفّت شالها الأزرق الحريري حول كتفيها العاريتين ثم جلست على عتبة الدار«لا يزال الوقت مبكراً»، قالت في نفسها.
راحت تراقب بيوت الحارة، تنظر من خلال نوافذها الخشبية: المرأة العجوز التي لا تزال حتى اليوم تبكي ابنا لم تنجبه، عازف العود الذي ترمّل باكراً، وأمه التي تبحث له عن عروس جديدة، أستاذ الأدب العربي الذي يمضي الليل بطوله يحفظ قصائد لمحمود درويش، فيتأخر في الوصول صباحا إلى المدرسة..
يحاول أستاذ اللغة هذا أن يحثّها على القراءة، لكنه عبثا يحاول, فهي لا تستهوي القراءة ولا تهمّها الكتب والقصص والروايات, تتذكر آخر حديث دار بينهما منذ أكثر من أسبوعين:
«أنا أرقص، وأغني وأحلم أيضا! ثم إنني أراقب بيوت الحارة كلها. إذا لم تكن البيوت عبارة عن قصص وروايات وحَكايا، فما هي إذاً؟ حجارة؟ آه؟ أجبني».
نظر إليها الأستاذ نظرة تعجّب وإعجاب، وضحك في سرّه (الجميلات لا يقرأن)..
***
قرأتْ في إحدى الروايات أن "بيوت القدس بلون القرنفلّ"*.
هرعت إلى المطبخ: «ما لون القرنفل؟».
أجابتها جدّتها من دون أن تشيح بنظرها عن ركوة القهوة: «القرنفل؟ زهري».
على الرغم من انشغال جدّتها بركوة القهوة، سألتها مجدداً: «في بيوت لونها من لون القرنفل؟».
أجابتها جدتها: «لا يا ستّي. ما في».
لن تعرف يوما إن كانت بيوت القدس فعلا بلون القرنفل، لكنها تفضل أن تفكّر بها على أنها كذلك اختارت أن تصدّق صفحات الرواية , من الآن فصاعدًا لن تسأل أحداً عن مدى صحّة كلام الروايات.
***
سألها: «وأنتِ؟ قولي لي ما هي فلسطين بالنسبة لك».
تلعثمت: «فلسطين؟ أنا؟ أنا لست بمناضلة، ولا القضية قضيتي.,حتى إني لم أقرأ عنها يوما!».
أجابها: «فلسطين، أنتِ».
وحكت له يومها: «قرأتُ في إحدى الروايات أن بيوت القدس بلون القرنفل, لن أعرف يوما إن كانت بيوت القدس فعلا كذلك, لكنني أحلم. وفي حلمي، تكاد تصبح فلسطين باقة من القرنفل. لا هي فلسطين العروبة ولا هي فلسطين المحتلّة. رأيتها في عيون البعض من أبنائها. تسلّلت إلى أحلامي، كأي أرض عطشى. أنا نفسي لم أكن أعلم أن أحلامي تتسع لوطن يمتدّ من البحر حتى النهر».
ابتسم لكلامها وقال: «إذاً، كامل التراب الوطني الفلسطيني؟».
* من رواية «تقاسيم على وتر ضائع» لنازك سابا يارد