RiNaD عضو مجلس الإداره
نقاط التميز : +200 عدد المساهمات : 860 العمر : 31 الموقع : ~ وَطَنْ مَسـْلوب ~ العمل/الترفيه : طــالبة المزاج : ~ نَقْش ألْحروفْ ~ نقاط : 6647 تاريخ التسجيل : 25/01/2009
| موضوع: عــائـد إلــى حـيــفـا *غسان كنفاني* الخميس أبريل 02, 2009 7:33 pm | |
| رواية عائد إلى حيفا
غسان كنفاني
-(1)-
حين وصل"سعيد س." إلى مشارف حيفا، قادما إليها بسيارته عن طريق القدس، أحس أن شيئا ما ربط لسانه، فالتزم الصمت، وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل.وللحظة واحدة راودته فكرة أن يرجع، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة بالبكاء الصامت، وفجأة جاء صوت البحر، تماما كما كان. كلا،لم تعد إليه الذاكرة شيئا فشيئا. بل انهالت في داخل رأسه، كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءت الأمور والأحداث فجأة، وأخذت تتساقط فوق بعضها وتملأ جسده. وقال لنفسه أن" صفية" زوجته، تحس الشيء ذاته، وأنها لذلك تبكي. منذ أن غادر رام الله في الصباح لم يكف عن الكلام، ولا هي كفت، كانت الحقول تتسرب تحت نظرة عبر زجاج سيارته، وكان الحر لا يطاق، فقد أحس بجبهته تلتهب، تماما كما الإسفلت يشتعل تحت عجلات سيارته، وفوقه كانت الشمس، شمس حزيران الرهيب، تصب قار غضبها على الأرض طوال الطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم، تحدث إلى زوجته عن كل شيء، عن الحرب وعن الهزيمة وعن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات. وعن العدو الذي وصل إلى النهر والقناة ومشارف دمشق خلال ساعات. وعن وقف إطلاق النار والراديو ونهب الجنود للأشياء والأثاث، ومنع التجول، وابن العم الذي في الكويت يأكله القلق، والجار الذي لم أغراضه وهرب، والجنود الثلاثة الذين قاتلوا وحدهم يومين على تله تقع قرب مستشفى أوغستا فكتوريا، والرجال الذين خلعوا بزاتهم وقاتلوا في شوارع القدس، والفلاح الذي أعدموه لحظة رأوه قرب أكبر فنادق رام الله. وتحدثت زوجته عن أمور كثيرة أخرى، طوال الطريق لم يكفا عن الحديث. والآن، حين وصلا إلى مدخل حيفا، صمتا معا، واكتشفا في تلك اللحظة أنهما لم يتحدثا حرفا واحدا عن الأمر الذي جاءا من أجله ! هذه هي حيفا إذن، بعد عشرين سنة. ظهر يوم الثلاثين من حزيران، 1967، كانت سيارة" الفيات" الرماية التي تحمل رقما اردنيا أبيض تشق طريقها نحو الشمال، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة، وتتسلق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي. وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهارت الجدار كله، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع، ووجد نفسه يقول لزوجته (صفية ): -" هذه هي حيفا يا صفية !" وأحس المقود ثقيلا بين قبضتيه اللتين أخذتا تنضحان العرق أكثر من ذي قبل، وخطر له أن يقول لزوجته :" إنني أعرفها، حيفا هذه، ولكنها تنكرني" ولكنه غير رأيه، فقبل قليل فقط كانت فكرة قد خطرت له وقالها لزوجته : -" أتعرفين ؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكن أبدا أبدا لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا والى حد كبير مهينا تماما … قد أكون مجنونا لو قلت لك أن كل الأبواب يجب الا تفتح الا من جهة واحدة، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة". والتفت إلى زوجته، إلا أنها لم تكن تسمع، كانت منصرمة إلى التحديق نحو الطريق : تارة إلى اليمين حيث كانت المزارع تمتد على مدى البصر وتارة إلى اليسار حيث كان البحر، الذي ظل بعيدا أكثر من عشرين سنة، يهدر على القرب. وقالت فجاءة : -" لم أكن أتصور أبدا أنني سأراها مرة أخرى". وقال : -" أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك". وعندها فقدت أعصابها، كان ذلك يحدث للمرة الأولى. وصاحت فجاءة : -" ما هذه الفلسفة التي لم تكف عنها طوال النهار؟ الأبواب والرؤيا وأمور أخرى، ماذا حدث لك؟". -" ماذا حدث لي؟". قالها لنفسه وهو يرتجف، ولكنه تحكم بأعصابه وعاد يقول لها بهدوء : -" لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ، أتعرفين الشيء الفاجع الذي حدث في نيسان 1948، والآن، بعد لماذا؟ لسواد عينيك وعيني؟. لا. ذلك جزء من الحرب. إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدما لنا، معجبين بنا… ولكن رأيت بنفسك : لم يتغير شيء … كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير …"
-"إذن لماذا أتيت ؟" ونظر إليها بحنق، فصمتت. كانت تعرف، فلماذا تسأل؟ وهي التي قالت له أن يذهب، فطوال عشرين سنة تجنبت الحديث عن ذلك، عشرين سنة ثم ينبثق الماضي كما يندفع البركان… وحين كان يقود سيارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب ما تزال هناك، بصورة ما، غامضة ومثيرة ومستفزة، وبدت له الوجوه قاسية ووحشية، وبعد قليل اكتشف أنه يسوق سيارته في حيفا دون أن يشعر بأن شيئا في الشوارع قد تغير. كان يعرفها حجرا حجرا ومفرقا وراء مفرق، فلطالما شق تلك الطرق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946. إنه يعرفها جيدا، والآن يشعر بأنه لم يتغيب عنها عشرين سنة، وهو يقود سيارته كما كان يفعل، كما لو أنه لم يكن غائبا طوال تلك السنوات المريرة ! وأخذت الأسماء تنهال في رأسه كما لو أنها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار : وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار، واختلطت عليه الأمور فجاءة، ولكنه تماسك، وسأل زوجته بصوت خافت : -" حسنا، من أين نبدأ؟". ولكنها ظلت صامته. وسمع صوتها الخافت يبكي بما يشبه الصمت، وقدر لنفسه العذاب الذي تعانيه، وعرف أنه لا يستطيع معرفة العذاب على وجه الدقة، ولكنه يعرف أنه عذاب كبير، ظل هناك عشرين سنة، وأنه الآن ينتصب عملاقاً لا يصدق في أحشائها، ورأسها، وقلبها، وذاكرتها، وتصوراتها، ويهيمن على كل مستقبلها. واستغرب كيف أنه لم يفكر أبداً بما يمكن أن يعينه ذلك العذاب، وبمدى ما هو غارق في تجاعيد وجهها وعينيها وعقلها. وكم كان معها في كل لقمة أكلتها، وفي كل كوخ عاشت فيه، وفي كل نظرة رمتها على أولادها وعليه وعلى نفسها. والآن ينبثق ذلك كله من بين الحطام والنسيان والأسى، ويأتي على ركام الهزيمة المريرة التي ذاقها مرتين على الأقل في حياته. وفجاءة جاء الماضي، حادا مثل سكين : كان ينعطف بسيارته عند نهاية شارع الملك فيصل (فالشوارع بالنسبة له لم تغير أسماءها بعد) متجها نحو التقاطع الذي ينزل يسارا إلى الميناء، ويتجه يمينا نحو الطريق المؤدي إلى وادي النسناس، حين لمح مجموعة من الجنود المسلحين يقفزون على المفترق أمام حاجز حديدي. وحين كان يرمقهم بطرف عينيه، صدر صوت انفجار ما من بعيد، وأعقبته طلقات رصاص وفجأة أخذ المقود يرتجف بين يديه، وكاد أن يرطم الرصيف، وتماسك في اللحظة الأخيرة، وشهد صبياً يعدو عبر الطريق، وعندها جاء الماضي الراعب بكل ضجيجه. ولأول مرة منذ عشرين سنة تذكر ما حدث بالتفاصيل، وكأنه يعيش مرة أخرى. صباح الأربعاء، 21 نيسان، عام 1948. كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً، رغم أنها كانت محكومة بتوتر غامض. وفجأة جاء القصف من الشرق، من تلال الكرمل العالية. ومضت قذائف الموتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية. وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى، واكتسح الرعب المدينة التي أغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها.
| |
|
*Noor* مشرفة قسم إبداعاتنا
نقاط التميز : +100 عدد المساهمات : 468 العمر : 30 الموقع : فلســ أغلى وطن ــــطين العمل/الترفيه : طــالبـة :) المزاج : أعيش على أمل ~ نقاط : 6104 تاريخ التسجيل : 20/01/2009
| موضوع: رد: عــائـد إلــى حـيــفـا *غسان كنفاني* الجمعة أبريل 03, 2009 10:24 am | |
| لو أقرأ هذه الرواية مرات ومرات لن أملّ ولن أضجر غسان كنفاني كاتب لا تعليق على كتاباته عائد الى حيفا,, أجمل ما كتب هو وأجمل ما كُتِب على مر التاريخ أتمنى أن نعود جميعنا يوما لحيفا وللوطن شكرا لك رناد.. دمتِ بخير | |
|
جواز سفر مبدع نشيط
نقاط التميز : +100 عدد المساهمات : 214 العمر : 41 الموقع : الامارات العمل/الترفيه : مهندس مدني نقاط : 5951 تاريخ التسجيل : 16/02/2009
| موضوع: رد: عــائـد إلــى حـيــفـا *غسان كنفاني* الأحد أبريل 05, 2009 6:24 pm | |
| غسان كنفاني مثال صارخ على الايب الملتزم الذي لا يكل او يمل، صادق بعطائه مخلص لقضيته، مبدع في عمله، اغتيل وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وعلى الرغم من ذلك فقد خلف اعمالا يحتاج غيره عقودا مديدة لينجزها من اعماله - عائد الى حيفا رجال في الشمس، وهي احب اعماله الى قلبي ولا ادري السبب ما تبقى لكم، ارض البرتقال الحزين، موت سرير رقم 12 " ام سعد" وهي مجموعة قصصية، عن الرجال والبنادق، وغيرها الكثير، بالاضافة الى ترأسه لتحرير العديد من الصحف و المجلات، مثل جريدة المحرر ومجلة الهدف، وهو اول من كتب عن شعر المقاومة وفتح المجال لغيره ليسبروا اغوار هذا الباب، وكذلك فقد خلف بعد استشهاده العديد من الاعمال التي لم تكتمل، اذكر منها رواية الاعمى والاطرش، وبرقوق نيسان، اللتان لم تكتمل جميع فصولهما | |
|