تــكمــلـة...
في القدس رائحة تُلخّصُ بابلا والهند في دكان عطار بخان الزيتْ
والله رائحة لها لغة ستفْهمُها إذا أصْغيتْ
وتقولُ لي إذ يطلقون قنابل الغاز المسيّل للدموع عليّ: "لا تحفل بهم"
وتفوحُ من بعد انحسار الغاز، وهْي تقولُ لي: "أرأيتْ؟"
في القدس يرتاحُ التناقضُ، والعجائبُ ليس ينكرُها العبادُ،
كأنها قطعُ القماش يُقلّبُون قديمها وجديدها،
والمعجزاتُ هناك تُلْمسُ باليديْنْ
في القدس لو صافحت شيخا أو لمست بناية
لوجدْت منقوشا على كفّيك نصّ قصيدة
يا بْن الكرام أو اثْنتيْنْ
لربما كانت نشرات الأخبار التلفزيونية تنقل مشاهد الدم والقتل والحروب، إلا أن الكاميرات تغفل عن تصوير لحن البراءة والطفولة الذي يترنم به تميم ويحسه، وقد جعلنا نحسه من خلاله. فالحمام يعلو على غطرسة المعتدين معلنا بكل شجاعة دولة الحق في سماء القدس العذبة النقية من قذارة الأعداء ، متجاهلا ما حوله من رصاص قاتل.
في القدس، رغم تتابع النّكبات، ريحُ براءة في الجوّ، ريحُ طُفُولة،
فترى الحمام يطيرُ يُعلنُ دوْلة في الريح بيْن رصاصتيْنْ
ثم يحملنا تميم على جناحيه ليحلّق بنا في سماء القدس، لنقرأ بعينه تاريخها المسطور بقبور الأمم الغابرة، التي مرت على المدينة من كل أنحاء الدنيا. فمن من أهل الأرض لم يمر هنا، على اختلاف الأصول والملل؟ وفي استفهام تهكميّ وراءه ما وراءه من حزن مستتر، نراه يتساءل هل استثنانا كاتب التاريخ أو حتى نسي وجودنا؟ وفي نبرة يشوبها حزن المظلوم، ولوعة المحروم، يطلب تميم من التاريخ أن يعيد النظر مرة أخرى عساه يجد لنا مكانا في كتابه.
في القدس تنتظمُ القبورُ، كأنهنّ سطورُ تاريخ المدينة والكتابُ ترابُها
الكل مرُّوا من هُنا
فالقدسُ تقبلُ من أتاها كافرا أو مؤمنا
أُمرر بها واقرأ شواهدها بكلّ لغات أهل الأرض
فيها الزنجُ والإفرنجُ والقفْجاقُ والصّقْلابُ والبُشْناقُ
والتاتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ،
فيها كلُّ من وطئ الثّرى
أرأيتها ضاقت علينا وحدنا
يا كاتب التاريخ ماذا جدّ فاستثنيتنا
يا شيخُ فلتُعد الكتابة والقراءة مرة أخرى، أراك لحنْتْ
ويعود تميم من عصور عاشها في ثوان ، وفي السيارة التي قضى سائقها بانتهاء الرحلة منحرفا بسيارته شمالا جرّاء منعه من دخول القدس، يلتفت الشاعر إلى مرآة السيارة إلى يمينه، ليرى فيها القدس خلفه، فتنهمر منه الدموع حزنا ليس على وداعها فحسب، وتاركا كل الحقيقة خلفه. ولكنه يرى ابتسامة شقية تغافله لتتسلل بين دموعه، إذ شخصته القدس قائلة:
العين تُغْمضُ، ثمّ تنظُرُ، سائقُ السيارة الصفراء، مال بنا شمالا نائيا عن بابها
والقدس صارت خلفنا
والعينُ تبصرُها بمرآة اليمين،
تغيّرتْ ألوانُها في الشمس، منْ قبل الغيابْ
إذ فاجأتْني بسمة لم أدْر كيف تسلّلتْ للوجْه
قالت لي وقد أمْعنْتُ ما أمْعنْتْ
يا أيها الباكي وراء السور، أحمقُ أنْتْ؟
أجُننْتْ؟
لا تبك عينُك أيها المنسيُّ من متن الكتابْ
لا تبك عينُك أيها العربيُّ واعلمْ أنّهُ
في القدس من في القدس لكنْ
لا أرى في القدس إلا أنْت
شـــكـــرا