حنظلة .... الى أين ؟
...... بعباءته السوداء يطل علينا يوم جديد , يدق أبوابنا التي راكمت الأيام الصدء عليها حتى آكلها و تفشى فيها كما تفشى الاحتلال في تلك الأرض , و تركت فيها ثقوبا و خروقا تتفاوت في اتساعها كما تتفاوت الأزمنة التي نقشت فيها لتجعل من كل باب لوحة اكتست زواياها بألوان المرارة , و صفحة من كتاب تاريخ يروي فصولا من المأساة , كل ثقب يشهد على رصاصة شقت طريقها من هنا , و يؤرخ لاشتياح ... لحرب ... لعذاب ....
يأتي مجددا ليفتح نوافذنا التي لم تصافحها خيوط النور الذهبية منذ ستين عاما , حتى ألفت الظلام الدامس و السواد الحالك , و نسيت اشراق الشمس و رونق أشعتها المضيئة ....
يفتح بيديه الخشنتين أعيننا و يوقظنا من نومنا .. من أحلامنا ... ليذكرنا أن أحلامنا جميعها دفنت مع أول شهيد سقط على تلك الأرض .... و يعيدنا لواقعنا المر الذي نعيش فيه و يعيش فينا , ذلك الواقع الذي جثم على أرواحنا غرس أنيابه عميقا في قلوبنا سيطر على عقولنا حتى صار جزءا منا , و صرنا نصنعه بأنفسنا ..!
هكذا هو حال كل يوم جديد يزورنا , منذ أن فارقنا تلك الأرض يوم أن ودعناها وواعدناها على لقاء أكيد كتبنا مواعيده على كل ورقة زيتون , حفرناه على كل جذع شجرة , نقشناه على كل حجر , أرسلناه مع كل حمامة .... لنصدم بعدها بأن الورق يذبل و الشجر يقتلع , و الحجر يتفتت و يبلى , و الحمام ... حتى الحمام يقتل ....
هو حال تعودناه ... لاجديد فيه ... كل يوم يشبه سابقه و لاحقه ... الا أن الجديد اليوم ... اليوم فقط و أنا أقلب جريدة الصباح , التي عهدت صفحاتها .. صورها .. أخبارها الجديدة القديمة .. اليوم فقط في الصفحة الأخيرة وجدت فراغا فوق توقيع " ناجي" فراغ لطالما ملأه " حنظلة " ... نعم اليوم صباحا استيقظت و لم أجد حنظلة ! اختفى من بين صور الكريكتير , اختفى من الجرائد , من الصفحة الأولى في دفتري , من لوحة علقتها على حائط غرفتي , لم أجده في أي مكان ! أحقا أنه غادر ؟ و لماذا ؟ و الي أين ؟ أسرعت نحو عتبة الباب لأتفقد حذاءه أرحل حقا ؟! لكنني تذكرت لحظتها أنه كان حافي القدمين فتسللت لوجهي ابتسامة عارضة سرعان ما ضاعت بين تقاسيم وجهي القلق و ذابت في شحوبه ....
على عجل خرجت أبحث عنه ... في الأزقة الضيقة ... على جدارن البيوت العتيقة ... بين أشجار الزيتون , و بعد جهد شاق قادتني المصادفة الى شاطئ البحر لأجده هناك يرسم على حبات الرمل وطنه الضائع ... يتقدم الموج ليمسح الرسم ثم يعود لينحسر ... يمسك الغصن الصغير مجددا و يعيد الرسم , و قبل أن يكمله يعود الموج ليمسحه , الا أنه لا يمل .. ليس ثمة ما قد يقف في وجه أحلام هذا الطفل .. قد يستطيع البحر الواسع بقوته و جبروته أن يمسح أحلامه البريئة و لكنه لن يستطيع منعه من رسمها مجددا .... كان حنظلة جالسا في ركن يلفه الصمت لا أنيس له الا الوحدة ... تقدمت بخطوات وئيدة و جلست الى جانبه ... جلست بصمت تام لم أكسره الا عندما ... رأيت و لأول مرة الدمع يشق طريقه على خدي حنظلة ... حنظلة يبكي !!
لا النكبة بقساوتها و لا النكسة بمرارتها لا و لا المجازر المتعاقبة بدمويتها استطاعت أن تهزم الأمل الذي يملأ روحه , أو أن ترسم العبوس على وجهه و تملأ عينيه البريئتين بالدموع ... أمعقول أنه ثمة ما هو أقسى من ذلك كله !؟
أمسكت بيده الصغيرة ... و بعد الحاح طويل ... تفوه بكلمات ... حدثني بصوته الجريح .. ذلك الصوت الدافئ الذي يحمل في طياته بحة شجية كما نغمة ناي صياد حزين يعزف حسرته و آهاته عند الفجر على شاطئ يافا ...
- كيف تتركنا يا حنظلة و تغادرنا , ألا تعرف مكانك في قلوبنا و كيف أنك صرت جزءا من هويتنا ... مرآة لواقعنا ؟
(- هذا ما كنت أظن , لكنكم فرطتم بالقضية التي حملتها , و كتمتم أنفاس الثورة التي ولدت من رحمها , رسمتموني على جدارن بيوت تأوي اخوة متخاصمين , على صفحات جرائد تفيض بأخبار الاقتتال الداخلي , علقتموني في سلاسل على صدور تضم قلوبا سوداء ليس للوطن فيها مكان .. تتأجج بمشاعر الحقد على الآخر ... توجهها مصالح شخصية ضيقة ... قلوب تخلو من كل معاني التفاهم ... التضحية من أجل تلك الأرض ... أو نقشتموني على سوار يلف معصما وجه بندقيته نحو صدر شقيقه ... نحو قضيته ... نحو أرضه ... ليغتالهم جميعا تحت شعار الوطنية !
( أطرق هنيهة ثم تلمس أثر الخارطة الرملية التي جرفتها الأمواج ) بدءتم المشوار جميعا نحو هدف واحد تحرككم دوافع واحدة , ربما اختلفت أسالبيكم الا أنكم كنتم دائما تلتقون على حب تلك الأرض تتوقون لاستعادتها , لبناء دولتكم فيها ... تلك الدولة التي تعاونتم على وضع أساساتها ... رسمها على التراب ... فأعجبتم بصنيعكم و فرحتم بها ... و قبل أن تعلوا سقفها ... تبنوا قلعتها ... اختصمتم على من سيحكمها , و تجادلتم فيمن كانت له الأسبقية في رسمها و الأحقيه في سيادتها , و الموج من تحت أقدامكم يمحوها شيئا فشيئا ... و أنتم منشغلون في اقتتالكم ... و الموج يعلو و يعلو الى أن أغرقكم و سحبكم الى أعماقه و صرتم رهنا لأمواجه العاتية و وحوشه الضارية , الا أن ذلك كله لم يكن كافيا لتستفيقوا من غفلتكم و تعيدوا وحدتكم و ها أنتم في القاع تضيعون آخر لحظات حياتكم في عراك و جدال على من كان السبب في الغرق ؟!)
.... لم أنبس ببنت شفة , كنت فقط أراقبه و هو يطوي ورقة ليصنع منها مركبا صغيرا , أرخاه على سطح الماء ثم قفز الى داخله , و جذف بعيدا الى أن أدرك الأفق حيث كانت الشمس تنحل ببطئ في الماء لحظة الغروب ... التفت الي و كانت المرة الاولى التي أرى وجهه فيها ... لم أتبينه بوضوح ... كل ما رأيته هو عينان ذابلتان تحدقان بي , تنظران الي نظرة عتاب , لم أقوى على اطالة النظر اليه , لم أستطع وداعه ... تجولت بعيني في المكان بين الرسم العافي و الغصن الملقى جانبا ثم عاودت النظر الى الأفق , كانت الشمس قد سحبت اخر أشعتها و اختفت عند نقطة تلاقي الماء بالسماء مخفية معها ثائرنا الصغير ... فهل ثمة سبيل لعودته ؟