السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه الآية الثالثة التي اخترتها لكم من كتاب ( في إشراقه آية ) للدكتور عبد الكريم بكار :
( إن خير من استأجرت القوي الأمين )
ذكر لنا القرآن الكريم نصيحة ابنة شعيب عليه السلام لأبيها باستئجار موسى ، وعللت ذلك بقوته وأمانته . وقد جمعت في تعليلها المختصر بين أمرين عظيمين - القوة و الأمانة - ينضوي تحتهما معظم الكمالات الإنسانية ، وهذه وقفات سريعة معهما :
1. ليست الأمانة هنا إلا رمزا لما يستلزمه الإيمان بالله - تعالى - من المحامد كالإخلاص والأمانة والصبر والمروءة وأداء الفرائض والكف عن المحرمات . وقد وصفت ابنة شعيب موسى بالأمانة لغضه طرفه عنها ، ومشيه أمامها حتى لا تصيب الريح ثيابها فتصف مالا تحل له رؤيته . أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان وقد رأت ذلك في موسى عندما سقى لهما.
2. الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائما ، فقد يتحدان ، وقد يتقاطعان ، فالصبر جزء من الأمانة وفي ذات الوقت هو قوة نفيسة إرادية . وإذا كان العلم من جنس القوة ، فإنه يولد نوعا من الأمانة ، إذ أهله أولى الناس بخشية الله ( إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) . والإيمان أجل القيم الإسلامية وهو يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال ، ومن ثَم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية ، ظاهرة ( المسلم لا ينتحر ) .
3. سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادرا في بني الإنسان ، وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة , والقوي الذي لا يؤتمن ، والموثوق العاجز هم أكثر الناس ، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب ، وقد تمنى عمر – رضي الله عنه - أن يكون له ملء بيت ٍ من أمثال سعيد بن عامر الجمحي فيستعين بهم على أمور المسلمين .
4. العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص ( وهو ضرب من الأمانة ) ، والصواب ( - وهو هنا موافقة الشريعة - وهو ضرب من القوة ) .
5. نحن في مراجعة أخطائنا نركز على جانب الأمانة ، ونهمل جانب القوة ، وإذا ما أخفقنا في عمل ما قلنا : نحن بحاجة إلى تقوى وإخلاص ، ولا ريب أن الإخلاص مفتاح البول والتوفيق ، ولكن ما هي المعايير التي تمكننا من قياس درجة التقوى ، ومقدار الإخلاص ، إن ذلك لا يمكن تحديده ، وما لا يمكن تحديده لا يصلح لأن يكون هدفا . على حين أن قياس القوة ممكن ، والخلل فيها يكون عادة ظاهرا ، فحين يأتي خطيب يتولى إدارة الجيش ، وحين يتولى رجل لا يعرف الواقع رسم سياسات العمل ، فلا يقرأ جريدة ولا يستمع إلى نشرة أخبار ، ولا يحسن قراءة أي شيء يحيط به . وحين يتصدى للاجتهاد في أمور خطيرة من لا يملكون الحد الأدنى من المعلومات حولها ، ويترتب على اجتهادهم حدوث الفواجع . قد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها ، بتأهيل الشخص قبل إيجاد العمل الذي سيعمل فيه ، بدلا من أن يتم إيجاد المنصب ثم يُبحث عمن يسد الفراغ ليس أكثر !
6. إن إخراج القوة هو مهمة الدولة أولا ، فهي المسئولة عن تفجير الطاقات كافة وتوجيهها ، ومهمة صفوة الصفوة من صانعي المبادرات الخيرة ، فيجدون باستمرار الأفكار والأطر والآليات لتفعيل القوى الخامدة المجهولة لدى الناس حتى حامليها . واليهود هم من أساتذة العالم في ( إخراج القوة ) وتوظيفها واستغلالها ، وصحيح أن ديننا يحول بيننا وبين وسائل كثيرة استخدموها حتى وصلوا على ما وصلوا إليه ، لكننا أعتقد أنه مازال في هذا العالم مكان فسيح للمسلم المبصر الأريب .
7. الأمانة قيد على القوة فهي التي تحدد مجالات استخدامها وكيفياته ، والقوة الآن في يد الآخرين ( غير المسلمين ) ، والقيود الأخلاقية عندهم آخذة في الضعف يوما بعد يوم لأنها لا تعتمد على إطار مرجعي أعلى يمنحها الثبات ، ومن ثم فان القوة ليست في طريقها إلى الانطلاق من أي ضابط أو رقيب لكنها في طريقها إلى صنع قيودها بنفسها الصناعة التي تمكنها من مزيد من الانطلاق ، وهي بذلك تجعل الآخرين يتوهمون أنها قيود ؛ حتى لا يشعر أحد أن هناك فراغا أخلاقيا يجب ملؤه ! وما النظام العالمي الجديد سوى الأحرف الأولى في أبجديات القيود الجديدة ! وهذا يوجب علينا المزيد من التفكير والتأمل فيما يجب عمله ، ونحن مع ضعفنا قادرون في هذا المضمار على عمل الكثير الكثير إذا فهمنا لغة العصر ، وأحسنا إدارة الصراع ؛ إننا نملك القيود ( الأمانة ) ، وهم يملكون القوة ، فهل نسعى لامتلاك القوة المقيدة حتى يصطلي العالم بالنار دون أن يحترق ؟؟
د.عبد الكريم بكار