الرجل المناسب في الزمن غير المناسب ( عبد الحميد الثاني)
قبل القسطل بسبعة واربعين عاما، وتحديدا في التاسع عشر من ايار عام الف وتسعمئة وواحد، جلس عبد الحميد الى مكتبه الصغير، في غرفة نومه، يشرب قهوته الصباحية، ويراجع بعض الاوراق، كانت مجرد مراسلات ووثائق يمتد تاريخها على فترة تزيد عن الست سنوات، وفي الحقيقة لم يكن بحاجة للمراجعة، فقد كان يعلم تفاصيل هذه الاوراق ومحتوياتها، لذلك فقد القى بها جانبا ونهض عن كرسيه، ووقف قبالة مراّة مثبتة الى احد جدران الغرفة، اخذ يتحسس لحيته الكثة، وقد بدأ الشيب ينقشها باللون الابيض، كان شعر راسه داكن السواد، ووجهه حنطي وقامته طويلة ممتلئة، وبالرغم من سني عمره التي اقتربت من الستين، الا انه وبحكم ممارسته للعديد من الرياضات منذ الصغر، ما زال يمتلك جسما متناسقا ممتلئا.
كان يعلم ان لديه ضيوفا ينتظرونه في مكتبه، ولم تكن من عادته ان يترك الضيوف تنتظر، الا انه قرر ان يخالف طباعه في هذه المرة بالذات، كان ضيوفه على درجة عالية من الاهمية، فقد كانوا يمتلكون مفاتيح كنوز الارض بين ايديهم، وكانوا على استعداد ان يدعوه يغرف منها قدر ما يشاء، ولكن هل يستطيع هو ان يمنحهم المقابل الذي يرغبون به؟، بالنسبة له كان الاجتماع منتهيا قبل ان يبدأ، وكانت العواقب الوخيمة واضحة أمامه، ولكنه كان قد عقد العزم والنية، فقد قرر وانتهى الامر.
" الصامت الشكاك"، لقد مضى زمن طويل على هذه العبارة، كان صبيا عندما لقبه والده بذلك، فقد كان يحب المطالعة ويبحر في فنون الادب والشعر، ويجيد الرماية بالمسدس، ويعشق ركوب الخيل، ويهيم بالسمفونيات الموسيقية، كان يحمل كل هذه المتناقضات معا، فصقلت شخصيته و اتسعت مداركه، ففاق من هم في مثل عمره رزانة وعقلا، فإذا دار الحديث، حرص على ان يصمت، ويسمع، ويدرك، وإذا تحمس غيره، حرص ان يحافظ على رباطة جأشه ورزانته، كان ذلك في صغره، وهو لم يختلف اليوم كثيرا، الا انه اليوم امبراطور الدولة العثمانية، وخليفة الاسلام في الارض، كان يحب ان يقرأ التاريخ، وخاصة تاريخ اسلافه العظام، ولكن التاريخ ابداً لم يكن منصفا، فلو أن عبد الحميد، اصبح سلطانا للدولة العثمانية في فترة قوتها، لأصبح بحق، احد اعظم خلفاء بني عثمان، لكنه تسلمها وهي اوهن من بيت العنكبوت، تكاد ان تنقض، الديون تغرقها، والثورات تطعنها، والدول تتربص بها، ومع ذلك فقد نجح في توحيد كلمة المسلمين مرة أخرى، ونجح في سداد معظم الديون، ونجح في انهاء الثورات،ونجح في إطالة عمر دولته اكثر من ثلاثين سنة اخرى، وهي التي كانت على شفير الهاوية، حتى لقد بدأت الدول الاخرى تتخوف من ان هذا الرجل عائد بالدولة العثمانية لتصبح قوة عالمية مرة اخرى، فبدأوا يكيدون له في السر والعلن.
" الصامت الشكاك" كان يحب ذلك اللقب، اما الان فلديه لقب اخر، اطلقه عليه اعداؤه،" السلطان الاحمر"، لفقوا اليه تهم ارتكاب المجازر، ولفقوا اليه لقبا لا يستحق ان يوصف به.
كان عبد الحميد، داهية فكر وسياسة، صائب الحكم، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، فقد رأى ان دوام دولته، وعودة مجده، لا يتم الا بأن تنشغل الدول الكبرى فيما بينها وتصدم، ويبقى هو على الحياد، فيستفيد ويخسروا اجمعين، وعلى ذلك بنى سياسته طيلة ثلاثين عاما، هي فترة حكمه، ولكن ذلك الصدام المنتظر لم يحدث الا بعد ان تاّمر عليه القريب والغريب، فأبعدوه عن الحكم، وتولى بعده من لا يدانيه حكمة وبصيرة، فغرق في مستنقع الحرب وضيع الدولة.
في مكتب الخليفة، كان يجلس صحفي، برفقة اثنين من زملائه، ولكنه اليوم لم يأت في مهمة صحفية، فقد عاف الصحافة منذ زمن بعيد، جلس ثيودور هرتزل منتظراً، لم يكن يعول كثيرا على هذا الاجتماع، فخلال السنوات الست الماضية فشلت كل محاولاته ووساطاته في تغيير موقف الخليفة او تليينه، وفي الحقيقة لم يكن يشعر بالاسف الكبير على هذا الفشل المتكرر، فهو اصلا لم يكن مؤمنا جدا بقضيته، فجل هدفه هو ان يبزغ ويشتهر كزعيم لليهود في العالم، لذلك كانت مواقفه متلونة متقلبة، فقد قبل فكرة ان يقيم اليهود دولتهم في الارجنتين بدلا عن فلسطين بعد ان رفض الخليفة عرضه الاول، ثم عاد وقبل ان يكون الوطن في اوغندا، ثم عاود الكرة مرة اخرى مع الخليفة ليمنحه جزءا من فلسطين، يتمتع بحكم ذاتي ولا ينفصل عن دولته، كان شخصية تحب التعمق في التفاصيل، وتهمل الملامح العريضة، فقد اغرق في وصف كيفية تاسيس الوطن القومي خلال كتاباته، ووصف كيف يمكن تجميع يهود العالم، وضرورة تأسيس شركة لهذا الغرض، تتولى عملية تخليص الاموال لليهود المهاجرين، لكنه اهمل ان يذكر الى اين سيهاجر هؤلاء اليهود في المقام الاول!
عدل هرتزل جلسته وأغمض عينيه، محاولا تصفية ذهنه، كان قد تجاوزالاربعين، الا انه ما زال يحتفظ بوسامته، ابيض البشرة، قصير الشعر، ذو لحية طويلة مجعدة، تشبه لحية حاخامات اليهود، رغم انه لا ينتمي لهم ولم يكن ابدا مؤمنا بمبادئهم.
كتب هرتزل يوما، في معرض افكاره لحل المشكلة اليهودية، وكيف ان اليهود مشتتون في كل بقاع الارض، لكنهم لا يستطيعون الانخراط في مجتمعاتهم كما الاخرون، فاقترح ان يدخل اليهود جميعا المسيحية!، وكعادته اغرق في التفاصيل، فوصف اليهود يسيرون في مسيرة كبيرة ، ويتجهون الى الفاتيكان، حيث يستقبلهم البابا، وهناك يشهرون جميعا اعتناقهم المسيحية، عدا هرتزل، حيث يبقى هو على اليهودية حفظا لكرامة اليهود حسب قوله، بل وجاوز ذلك بأن وصف الحوار الذي سيدور بينه وبين البابا بعد ان يعتنق جميع اليهود المسيحية، فيدعوه البابا لدخول المسيحية، ويرفض هو، ثم يتبادلان اطراف الحديث.
ولد ثيودور هرتزل، واسمه في العبرية بنيامين زئيف في النمسا ونشأ فيها، وتخرج صحفيا، ثم اتجه بعد فترة للادب وكتابة المسرحيات، لكنه لم يلق التوفيق، كرس كتاباته بعد ذلك لايجاد حل للمشكلة اليهودية، وكانت كل حلوله تقوم على مبدأ الانخراط في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود، الا انها جميعا لم تلق قبولا عند عامة اليهود وخاصتهم، ولم تحقق طموحه بالشهرة والقيادة، بعدها اتجه ليضرب على وتر قديم جديد، هو اقامة دولة لليهود، واقترح فلسطين لارتباطها الديني والعاطفي بالديانة اليهودية، لقيت فكرته قبولا عند البعض ومعارضة عند الكثيرين، لكنها لم تخرج الى النور حقا، وتشهد ولادتها الحقيقية، الا مع ظهور الصهيونية، في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1898.
اخرجه من ذكرياته، صوت الباب، الذي فتح ليدخل الخليفة مباشرة، ويوميء لهم مرحبا، فوقف الجميع مرحبين به ، ثم جلس الخليفة فجلسوا.
ضم الخليفة شفتيه بصمت وعقد يديه على صدره، منتظرا ان يبدأ هرتزل كلامه، كانت ملامح وجهه جامدة، فتوتر هرتزل، كانت المرة الاولى التي يلتقي فيها الخليفة، ولم يكن يتصور ان سيكون على بساطة لباسه واثاث مكتبه المتواضع ، بهذه الهيبة، كانت من عادات هرتزل ان يدقق النظر في وجوه الاشخاص حين يحدثهم، فيقرأ انطباعاتهم من تغيرات ملامحهم، لكن على ما يبدوا فإن ذلك لن ينفع مع هذا الرزين الرصين، سلطان بني عثمان وخليفة المسلمين.
بدأ هرتزل كلامه، بمدح الخليفة، وعدد انجازاته، واثنى على سداد رأيه في العديد من القضايا الدولية، كما قدم له الشكر باسم يهود العالم على المعاملة الحسنة التي يلقاها اليهود في شتى بقاع دولته.
حافظ الخليفة على صمته ولم ينبس ببنت شفة، منتظراً ان يدخل هرتزل في صلب الموضوع، زاد توتر هرتزل، ثم قرر ان يبدأ في تفصيل عرضه للخليفة مباشرة ودون مقدمات.
وعد هرتزل الخليفة بمبلغ عشرين مليون جنيه استرليني تُدفع لخزينة الدولة العثمانية، وتساعدها على سداد الديون المتراكمة، ووعد بمبلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية، تدفع للخليفة لوحده، ووعده بمساندة الدولة العثمانية، والعمل على وقف الحملات الدعائية الغربية ضدها، كل ذلك مقابل ان يمنحهم اي جزء من فلسطين يقيمون عليه وطنا لهم وليس دولة!
( ملاحظة : نظرا لطول الموضوع، فإن التكملة موجودة في الرد الاول على الموضوع)