أعطاني أحمد أول جرعة من ذاك الدواء وقال لي أنه قد لا يتمكن من المجيء في الغد لكن الدواء سيدفعني للنوم معظم ساعات النهار وهو وعدني أن يأتي في المساء
لم يأتي في ذاك المساء لكنني كنت قد أعددت نفسي لأي طارئ وملأت كوباً بالدواء حسب الوصفة تحسباً لنوبة صداع قوية عندما ينتهي مفعول الدواء
بعد أن انتهيت بعجز من صلاة العشاء التمست المذكرات فلم أجدها لا بد أن فضول أحمد دفعه لقراءتها كاملة
اقتحمت نوبة صداع ٍ قوية ٍ رأسي كانت قوية أكثر من أي نوبةٍ سبقتها وأقسى من أن يتحملها آدمي
ثم أحسست بصاعقةٍ تهبط من السماء لتستقر في رأسي فتفتت لأشلاء لمعت الدنيا في عيني ثم اسود كل شيء
كنت معي في الغرفة تلك الساعة أذكر أخر نظرةٍ لكِ وأنتِ تضحكين
دفعت بالعجلات نحو الشرفة المطلة على الشام كان الجو بارداً والسماء ملبدة ٌ بالغيوم إلا أن غيث السماء عز علينا هذا العام
طرقاتٌ على الباب
ـ من أحمد ؟
ـ نعم
ـ أهلاً ادخل هل أنت وحدك ؟
ـ نعم " قالها متلعثماً فأدركت أنه ليس كذلك فحاولت أن لا أظهر لمن معه ـ وهو على الأغلب هادي ـ شيئاً
وسرعان ما تقدم هادي نحو معلناً عن وجوده وهو يلوني على إخفائي للحقيقة عنه قائلاً لم نتقاسم الأفراح و الأتراح معاً ألم تحمل معي بل عني ألامي وتخفي في صدرك آهاتي وتنهيداتي
فلماذا بخلت عل أخيك وشقيق روحك بفرصة رد بعض أفضالك عليه
لعلك نسيت أنني طبيب كنت سأفعل كنت سـ ..
" مسحت بيدي المرتعشة الدمع عن وجه هادي ومسحت على رأسه قائلاً "
اهدأ يا شقيقي فما كان, كان وعليك الآن أن تساعدني على الصمود حتى النهاية
لا أريد لوالديك أن يعلموا
هات أعطني يدك أريد أن أرى الشام
" وصلنا للشرفة واستند على كتفه والحاجز الحديدي للشرفة"
ـ سجل يا أحمد
ورويت له كل ما جرى معي حتى وصلت إلى هذه اللحظة قائلاً :
لم أعد أدري ما حدث بعد ذلك لأنني فقدت البصر...
كان والدك يريد إنهاء المذكرات هنا لكنني سمحت لنفسي بالمتابعة مؤرخاً لهذه اللحظات
طلب شادي مني أن أعطيه إياكِ ضمكِ إلى صدره بقوة حتى بدأتِ تصرخين من الألم لكنك سرعان ما هدأتِ عندما وضع رأسك على كتفه وأخذ يمسد لكِ ـ وهي الوضعية التي كنتِ تحبين ـ ثم قال لكِ
أترين يا صغيرتي هذه المدينة الهادئة الصاخبة وهذه الأبنية العالية وتلك الأنوار لن يهتز في رأس الشام شعرة إن فقدت رجلاً مثلي
لكن قلبها سنفطر كقلب أم ثكلت على ولدها
كوني كالشام يا ابنتي كبيرة القلب صغيرة التفاصيل لتفردي جناحيك على الشام تحميها وتحميكِ
وعندما تكبري تذكري أنني لم أكو أريد لكِ إلا أن تكوني كالشام جميلة ً ممنياً النفس بأن تراكِ عينياي آنذاك
أوصيك يا هادي بشام خيراً ربها كأنها ابنتك كأنها ابنتك اعتني بها وبنفسك وعندما تكبر انقل لها عني الاعتذار
اسمع يا شقيقي عني وأنا الشاب الذي غزا الشيب رأسه وهد الزمن قواه وبعد لم أقطف زهرة الشباب
إنما الدنيا سيدة تابعها ومعبودة من تعفف عنها ثق بالله رب العالمين وأعلم أنه يعلم ما لا تدركه عقولنا الصغيرة
فحتى الموت يكون أحياناً رحمة
" هنا دخلت جدتك تطلب من ولديها الدخول إلى الغرفة وإغلاق الباب درأ ً لبرد الخريف
حملتك إلى السرير فانحنى والدك يقبل يدها ويطلب منها أن ترضى عليه وتدعو له الله
قبلته من بين عينيه وأخذت تدعو له ثم همت بالخروج مع تعالي صوت صراخك
قابلت جدك عند باب الغرفة ـ جدك الذي لم يحس شادي بقدومه ـ"
نظر شادي إلى السماء ثم نطق الشهادتين وقال وهو يضع رأسه على صدر عمك الباكي :
كم حلمت أن أموت واقفاً كما الفرسان في المعارك ولكن أبداً لم يتوهج معي الحلم بأن أريح رأسي آخر ما أريحه على صدر أخي ...
" قالها وأنهار على الأرض مع ارتفاع صوت نعيكِ لأبيكِ وقبل أن يصل إلى الأرض أدركه الجد والسماء ترعد وتبرق ولا مطر
الخامس عشر من أيلول منتصف الليل
إنها النهاية ....
نظرت إلى الباب لأجد عمي هادي واقفاً هناك ,نظرة أخرى إلى الأوراق
في مثل هذا اليوم والساعة منذ عشرين عاماً نبض هنا في هذه الغرفة أخر نبضاته قلب أبي
حملت الأوراق وانطلقت أصارع حبات المطر الغزير وتبعني عمي , وصلت إلى قبر أبي لأجد هناك سيدة ً تضع إكليل وردٍ على القبر وتقف بردائها الأسود بوقار
لم أره في امرأة من قبل كانت كجبل يأبى أن ينهار
تقدمت نحو أبي وأمي عجز لسان عن الكلام لكنني أحسست أنهما أدركا كل ما كنت أريد قوله
حفرت حفرة ً صغيرة بينهم زرعت فيها المذكرات لتستمد الحياة من الأرض أرض الشام التي عشقاها
ضمني عمي وحماني من المطر بمعطفه ومضينا تاركين خلفنا السيدة على حالة تواصله الروحي
تمت بحمد الله
محمد فتوح دمشق 1 نيسان 2002