خربــشــات 5 - بقلم :ر نـــاد

تكملة ل- خربشات 4 -

اجتزنا المعبر بعدما عاملنا ذاك الجندي الوغد بعنصرية أبغضتني, وقد أخذ هذا الحدث من نفسي مأخذه, وقلل من حماسي, وأوهن دقات قلبي..

الساعة لم تبلغ الحادية عشر ونيف بعد, وقد بلغ قرص الشمس كبد السماء, أخذت أروّح عن نفسي بعض ما ألم بي من نكبات متتالية , حتى بلغنا لُب البلدة.

الشوارع وسط البلد في طولكرم لها طابعها الخاص المميز الذي اعشقه‏..‏ شعرت بعطرتسلل إلي انفي حينما تنزهتُ في أرجائها‏..‏ عطرا منحته كل تلك العمائر القديمة ذات الأعمدة العالية والزخارف الجميلة وهذه الشوارع الطويلة المتداخلة التي تملئها الحوانيت المختلفة , أحب ذلك الزحام الذي يشتهر به وسط البلد بأرصفته ودكاكينه‏,‏ وواجهاته الأنيقة والمزدحمة وحركته التي تعج بالفوضى والصخب‏ , وأصوات البائعين المتداخلة ببعضها , كل هذه المناظر جعلت السعادة وروح الحياة تدّب في روحي كما تدب ملعقة عسل في ثغرك في أول الصباح فتجعل يومك حلوا .

أمي تحب أن تتسوق , وأختي الصغرى كذلك , أما أنا فلا يروق لي هذا الأمر , فأنني لا أتحلى بروح الصبر المناسبة للتسوق , فقررنا أنا وأبي أن نتخذ مسلكا , وأمي وأختي مسلكا آخر إلا وهو التسوق ومن ثم نلتقي عند موقف السيارات.

أخذت أنا وأبي نجول المكان هنا وهناك , وهو يكلمني عن مغامراته في هذا البلد عندما كان صبيا , حدثني عندما عمل في طولكرم ثلاث أيام متتالية من أجل أن يجني بعضا من النقود لشراء كتاب طُلب منه في المنهاج التعليمي! .. وحدثني الكثير الكثير.. وأثناء ذلك كنتُ أتأمل الناس وأرقبهم, فأرى المرأة تلتقي الأخرى واضعة قُبلتين على خديها , والرجل يلتقي الآخر مصافحا إياه ويحيه بحرارة متوهجة وكلام جميل , والطلاب العائدون الى بيوتهم وعلى ظهورهم حقائب المدارس .

وقفتُ وأبي مقابل بائع يجر عربة عليها عصارة وسلة برتقال , فاشترينا منه كأسين كبيرتين من البرتقال الطبيعي النمير , وتكلمنا مع البائع قليلا , سألته بدوري عن المكتبات المتواجدة في البلدة فذكر لي أسمائها ووصف لي أماكنها وشكرت صنيعه شكرا جزيلا .

مشيت في أرجاء البلدة , واختلطت مع ناسها وشعبها , وأحسست أنني أعرف الكثير عنها , لكنني كلما كنت أجوب شارعا من شوارعها أو ادخل أزقتها , كنت اشعر بشعور غريب ينتابني , لا حزن ولا فرح , كاشفتُ نفسي انه شعور بالخوف , فالأشياء الجميلة في حياتنا مرفقة بالأحاسيس المقلقة خشية من أن تنتهي بسرعة دون أن نَسعد بها حتى الشعور بالرضا , لذلك انتابني حزن لا مبرر له , فقلت لذاتي "أهو وقت الحزن يا رناد ؟" , فطردت كل هذه الأفكار المزعجة من دماغي , وتابعت السير حتى وصلنا لأول مكتبة أدلنا عليها ذاك البائع اللطيف , دخلتُ المكتبة وصوتي ينطق بتحيتي المتواضعة وسألت إذ كان ديوان تميم ألبرغوثي – في القدس – متواجد في المكتبة , لكنه لم يكن , مررنا بالمكتبة الثانية وسألت السؤال ذاته وقوبلت بنفس الجواب ! بقي لنا المكتبة الثالثة الذي وصفها ذاك البائع إنها من أكبر المكاتب وأشهرها, تلك التي تُدعى – دار الحكمة- , دخلت المكتبة وكلي أمل ورجاء بإيجاد ديوان تميم , رأيت شخصا كبير السن واقفا مع أناس في وسط المكتبة , أدركت أنه أمين المكتبة وبعض الزبائن , قمت بجولة أنا وأبي في المكتبة , وكانت مقلتاي تبحث بين الكتب الكثيرة عن ديوان تميم , لكني لم أره , فوقع نظري على قسم مخصص لدواوين محمود درويش , بدأتُ أتصفح الدواوين , وأبي كان يتصفح بعض الكتب التاريخية التي يهوى قرأتها , وبعد دقائق أتى صاحب المكتبة ليقدم لي المساعدة , سألته بصوت مفعم بالأمل " هل أجد عندكم ديوان في القدس؟" , ابتسم الرجل مما زاد وجه المتجعد تجعدا مضاعفا, وقال وهو ينظر إلي من فوق عدسات نظارته النظر " يا بُنيتي, قد بيعت آخر نسخة قبل يومين" , فشعرت أن الخيبة تصفعني على وجهي , فنظرت له نظرة شزراء وقلت بصوتي الواهن "خسارة" , فقال أنه سيصل للمكتبة في الأسبوع القادم عدد نسخ كثير من الديوان لأن عليه طلب كثير, فابتسمت وقلت له حتما سآتي .

آآهٌ يا تميم , كان الأرَب الذي جاء بي إلى هنا هو لأقتني ديوانك وأقرأك من خلاله فلم أجدك, ولكني سآتي في الأسبوع المقبل وأقتني الديوان وأقرأك ولن يحيل حائل أمامي ! !

تابعت السير مع أبي, والتقينا مع أمي وأختي وبين أيديهن أكياس عديدة محملة بالأغراض, وضعن الأكياس في السيارة, واتجهنا نحن الأربعة للأكل بعدما بدأت عصافير بطني بالزقزقة , دخلنا المطعم واتخذنا منضدة وجلسنا حولها , يا إلهي ما ألذ رائحة اللحم المشوي , وهل ثمة شيء ألذ من رائحة الطعام الشهي أثناء الجوع ؟!

حملتُ قصتي لأمي وأختي ونحن حول المائدة ننتظر الطعام المطلوب , وأخبرتهن أنني قوبلت بخيبات متتالية ولم أجد الديوان , فضحكت أختي وواستني أمي بقولها أنها اشترت لي بعض الأغراض من السوق ! !

انتهينا من الأكل وعدنا للبيت , بقيتُ جالسة في السيارة انظر للخلف وأتمعن البلدة وكلما ابتعدنا صغُرت الصورة حتى تلاشت عن الأنظار , كالأميرة التي تتسلل بين الحدائق وتمضي ونحن نمضي بنظراتنا على آثارها حتى تختفي آخر طياتِ من طيات ردائها, فشعرت بأن روحي قد انسحبت من جسدي و ما زالت هناك معلقة بسوق البلدة , معلقة بأناسها الطيبين الذي يمنحوك السعادة بمجرد الكلام معهم , معلقة برجالها المجدين الدؤوبين ونسائها الصامدات الجميلات كحور العين, معلقة بأرضي وبلدي وبيتي ألذي أتوق إليه بين الفينة والأخرى , معلقة بالجمال عينه والحياة العريقة ,

لا أكتمكم بقولي : إني لم أقضي في حياتي يوما أهنئ من ذاك اليوم الذي كان نسيمه البارد الرطب يترقرق فيلامس الوجوه بخفة كما تلامس يد الحسناء وجه حبيبها , كان يوما حافلا , رائعا ,والأجمل انني لم اسمع سوى اللغة العربية الطاغية على المكان , لا عبرية , لا أجنبية .. فقط عربية , آه يا لغة أمي ما أعظم أن تكوني على لسان كل الأنام , كَالعروس الفاتنة التي تدوم سيرتها على لسان الناس على مر الزمان.

أردتُ أن اخبر الجميع بالحب الذي أكنه لهذه البلدة والسعادة التي غمرتني يوم زُرتها , ليت شعري ! هل تصل همساتي الى أعماق أفئدة الذين أحب ؟!

لا أزال أشعر حتى الساعة بجمال ذالك المكان وطيبة العيش هناك , وما زلت أحسد الفلسطينيين المواطنين هناك على النعم التي أسبغها الله عليهم من ثقافة وصبر وأمل وجمال والمجاملات الرائعة المطوقة بالجوري والمعطرة بزهر البنفسج , هم تماماً كالأنوار التي تنير السُبل في ظلمات هذه الحياة!

كم تمنيت أن أعيش هناك.. !

يا ليتني أعيش بين الأحباب...

يـا لـيـتـني.. ! ! !

انتهت !

[b]

[/b]

قصة جميلة، ووصف أخاذ، وتعبير فصيح، وبيان مشع

جميل ان يكتب الانسان نفسه على الاوراق، والاجمل ان يبدع في في الكتابة كما تبدعين، السلاسة والبساطة، والاحداث الملتفة بالمشاعر، سمات جلية في كتابتك، فانت لا تقطعين نهم القاريء للاحداث، كي تصفي المشاعر او تدمجي الصور، ولا تسردي الاحداث جامدة بلا روح، بل تخلطينهما معا في مزيج حذر جميل، يشبع النهم ويسبغ الجمال

لا نريد لهذه الحكاية ان تنتهي! لا نريد ان نرى كلمة النهاية، اجعلي هذه القصة كالحياة، ننتهي نحن ولا تنتهي هي

أخـي جواز سفر:
دعني أسجل وبكل فخر انني دائما أُعجب بردودك الرائعة ..
دوما تأتي ردودك لتعللني حتى يهدأ ما بي!
قرائتي المتابعة لك علّمتني فن الإبداع ,, فالشكر لـــك.
لا بد يا أخي للقصة ان تنتهي , لان لكل بداية حتما سيكون نهاية , لكني أعدك بأن اكتب جزء آخر من زيارتي الثانية لطولكرم عندما اشتريت ديوان تميم..
فانتظرنــي..
وشكرا لك على المرور

الغالية رناد:

صحيح أني قرأت سردك هذا اليوم صباحا, الا اني لم اتردد بقراءته مرة بعد مرة بعد مرة..
أعيد قولي لكِ, مبدعة أنتِ, في كتاباتك تتجلى روح البساطة والعفوية, وما أجمل من العفوية حين تنطق!
حين أقرأ لكِ, أشعر بأن الكلمات في ذهني يحفرها صدقك, فالكلمات في جملك صادقة وتصرخ باواقع وتصيح بالجمال

دمتِ يا رناد متألقة هكذا كما عهدتك..

مشكور على الموضوع الرائع والجميل
اتمنى ان تكون على تقدم دائم

عضو جديد Smile

أهلا بك في منتدانا أخي هاوي الشعر.
انا فتاة ولستُ فتى !
شكرا لك على الاطراء والمرور الجميل.
واتمنى ان تُفيد وتستفيد من هذا المنتدى الرائع
دُمت

» خربــشــات *4* - بقلم :ر نـــاد
» خربــشــات *3* - بقلم :رنـــاد
» خربــشــات عــشــوائــيــة *2* .. بقلم : رنــاد
» خربــشــات عــشــوائــيــة .. بقلم : رنــاد
» يا بني صهيون, بقلم: نور

خربــشــات *5* - بقلم :ر نـــاد

خربــشــات 5 - بقلم :ر نـــاد