بينَ ثلاثة قبورٍ
** الجزء الأول**
سأغمر كأس حيـاتي بالنضـال..
فالنضال نبعٌ فياضٌ , متدفق..لا ينضب!
مهما إبتعدنا منه يظل يُلاحقنا إينما كُنـا..
سأهبُ حـيـاتي للوطــن..
فقط للوطــن..
وسوف أحققُ الإنتــصــار.
**
بين الرغبات المهيمنة على عواطفي , والأقدار المعاكسة .. كان قدري..
بين الحلم .. والواقع..تفجرت مشاعري..
قبل أسبوع , كنتُ وأهلي في رحلة حول أسوار عكا المذهلة و ومررنا بيافا , ومن ثم بحيفا , في منتصف طريقنا لحيفا أوقف أبي السيارة في مكان مهجور , مكان يخلو من الحياة والحيوية!
كنتُ أتأمل المكان في ذهول شديد ,وتنبهت لصوت أبي حين قال " رناد , تعالي سأريكي شيئا".
سررتُ بهذه الدعوة الغريبة , ونزلت من السيارة ونزل باقي الحاضرون وسرنا وراء أبي.
بيوتٌ مدمرة , أحجار متناثرة , أشجارٌ صامدة مُصفرّة اللون , أعشاب منتشرة هنا وهناك .. و...
وقبورٌ منظمة في صفوف معدودة , بعضها كاملة , والبعض الآخر هُدمت أجزاء منه ..
هذه لأول مرة في حياتي أدخل مقبرة !! تٌرى ما هي أحوال الموتى هنا؟ هل تلاشت جتتهم وأصبحوا هياكل ؟ هل يشعرون بوجودنا هنا؟! ما أغرب الشعور الذي إنتابني في هذه المقبرة المهجورة!
وقف أبي أمام قبر تحيط به قضبان من حديد , وقد هُدمت أجزاء منه , وقال "هذا قبر عز الدين القسام".
- "كيـف؟! , لم أسمع , كررّ ما قلتَ!! "
- " نعم قبر عز الدين القسام"
يا إلهـي .. قبر عز الدين القسام؟!
عز الدين القسام بذاته؟ لا و لا يمكن!
لكن لحظة , هذا اسمه , نُقش على لوح من الجبص ووضع جانب قبره ... يـااااه عز الدين القسام !!
انا أقف امام قبر عز الدين القسام , أي حلم هذا؟ أليس فيكم أحدا يقرصني كي أستيقظ من هذا الهذيان؟!
أقنعتُ نقسي أنني أقف أمام قبر عز الدين القسام .. بكل الأحوال هذا قبره ولا مجال للتشكيك في ذلك !
رحتُ أستعيد ذكريات كتاب التاريخ الذي نُسجت على صفحاته قصة هذا المقاوم العظيم .. تجلت أمامي بداية الموضوع , وصرتُ أجول بين الكلمات هنا وهناك , أتوقف عند منعطفاتها , وعند نهاية كل فقرة كنت أجلس على قارعة الصفحة أتأمل الكلمات ..عساني أفهم كيف حلت نهاية هذا البطل , ترآت لي كلمات كتاب التاريخ التي ما زالت منقوشة في عقلي :" وما جاء يوم العشرين من تشرين الثاني "نوفمبر" سنة 1935 حتى أضحى القسام علما من أعلام الجهاد يتردد اسمه في بلاد فلسطين كلها" .. قد قتلوه أولاد الــــ**..
قد قتلوا هذا البطل الــذي..
الذي كاد يحرر فلسطين من أيادي الغُزاة..
قد قتلوا البطل الذي لا يهـاب الموت.. أو خطر المجابهة !
تجلت صورته امـامي..
العمامة البيضاء التي يضعها على رأسه ..
مُقلتاه اللتان تُشعان ثورة ومقاومة..
لحيته الكثيفة الممزوجة بالأسود والأبيض..
إنه عز الدين القسام الذي أستشهد .. وها هو اليوم جثة هامدة يضمها ثرى فـلـسـطـيـن.
سيدّي عز الدين أنت الذي كنت دوما تسعى لتحقيق الإنتصارات الساحقة والتغلب على العدو... من بعدك سوف ينتصر ويتغلب على العدو؟؟
انتَ بطولكَ وعرضكَ تحت هذه القطعة من الأرض؟!
ألا يمكن أن تحصل معجزة وتخرج من هذا الرمس , وتعود للجهاد ولصدّ الأعداء؟ ألا يمكنك العودة لتُرجع لفلسطين عِزها ومجدها؟!!
يجب أن أطأطأ رأسي إجلالاً وتقديرا لجهودك الجبّارة التي قمت بها من أجل الوطن ..
بل يجب أن أطأطأ رأسي خجلا منك لأنني لم أجاهد كما فعلت في حياتكَ !
آآآه يا سيدي لو تدري ماذا حل بقضيتنا .. وما هو حالنا اليوم!
بقيتُ أتأمل القبر الذي يُلحف رجلاً ليس ككل الرجال.. رجلاً ذو يدين حبكتا الحياة بكل أحوالها بسرائها وضرائها , بحلوها ومرها ...رجلاً ذو عقل مدبر خارق..
قرأتُ الفاتحة على روح الشهيد عز الدين القسام , ودعوت المولى أن يدخله فسيح جناته , وقد ذرفت من العبرات ما أخمد شعلة القهر المتأججة في قلبي .
إلتفتُ لأبي وسألته عن سبب وجود قضبان تحيط القبر , فأجابني أنه تمت عدة محاولات من يهود عنصريّن لهدم القبر بأكمله وفي كل مرة كانوا العرب وعلى رأسهم - الشيخ رائد صلاح - كانوا يرممون القبر ومن ثم وضعوا القضبان حوله لصد تلك المحاولات الباخسة!
أتريدون هدم قبر رجل قد فارق الحياة أيها الصهاينة؟!
يا لكم من حمقى ..وماذا تَجّدون من ذلك ؟ حتى في قبره تعذبونه!
فلتذهبوا جميعكم للجحيم!
قال أبي "هيا بنا".
حملتُ نظراتي ببطئ ووجهتها تجاه القبر وتركتها معلقة هناك لتبث الشوق للمجاهد عز الدين القسام وتوعده بأننا سنلتقي حينما تنتصر فلسطين..نـعـم إن النصر قريب..
تقدمتُ خطوتين وما زال نظري معلقا عند ذاك القبر .. فقلت بذاتي " رحمك الله يا بطل..وإلــى اللقـاء.." وإنصرفت مع الحضور.
يـتــبــع..