بينَ ثلاثة قبورٍ
**الجزء الـثـاني**
كنتُ في صباح أول أمس أحمّل أمتعة لهفتي لأذهب وأهلي للموعد الذي رتبه لنا القدر مع مدينة خارج الخط الأخضر..
في طريقي للموعد , إنتابتني رغبة عارمة لأحلق في سماء الكون , لأخبر الجميع انني ذاهبة إلـى هـنـاك..
إلــى الحـيـاة..
إلى ملكة الكٌتب.. التي كتب عنها مريد أبي تميم حين رأها..
إلــى رام الله.
**
دخلتُ رام الله ..
شعورٌ يصعُب عليّ ترجمته .. عواطف تترفع عن التعبير .. كلمات تتعذر عن اللفظ..
وددتُ لو إستطعتُ البكاء.. لا لاني في رام الله و لا لاني حققتُ أحد أحلامي الوردية الواقعية , لا لكوني سعيدة , بل للذة البكاء أمام شيء عظيم لن يتكرر أن ألتقي به كمصادفة ..!
شعرتُ بالحنين الذي داعب حنايا مريد البرغوثي عند رؤيته لرام الله بعد ثلاثين خريفا في المنفى .. تستحق رام الله لأن تكون بطلة الكتاب.
لم أمنع نفسي من الإبتسام .. فالأجواء هناك محفزة للإبتسام ..
تجولت واهلي في أسواق رام الله , هذه الأسواق .. وهذه الأجواء تُذكرني بطولكرم ..
شوارع متفرعة , حوانيت متعددة , أصوات متداخلة , إزدحام , إكتظاظ و حركة , روائح المأكولات والقهوة , شباب , صبايا , مسنين , صغار ..
كل هذه المميزات لها طابعها الخاص الذي أعشقـه...!
هي ذي رام الله .. الحياة والحيوية .. المنكشفة على بساطتها , وجماليتها .. كنت بين الفينة والأخرى أقف متأملة الناس والأسواق .. خشيتُ أن أطل التأمل بها كي لا يصعقني تيار الحسرة على بلادي ..وعلى حياتي.. فبلادي تماما كمقبرة الاحياء .. رغم انهم أحياء إلا انه لا حياة عندنا..
هناك (في رام الله) الفتيات تخرج وصديقاتهن للتسوق .. للتجول .. للترفيه عن النفس..هناك الشباب يقفون بكل ثقة وسط الشارع ليبيعوا بضاعتهم .. هناك الحياةُ حياةٌ.. وعندنا الحياة موتُ .. لا تجوال ..لا تسوق .. كله تعقيدٌ ..الشباب يخجلون من العمل بأي متجر ..ليس السبب أهلي ولا أهل صديقاتي..إنما السبب أنه لا سبب لهذا الجهل.. لا أسواق متوفرة في البلدة , لا نوادي .. لا أماكن عامة .. ولا أنسى بعض العقول القديمة المتخلفة التي تشوه سمعة البنات اللواتي يتجولن في البلدة دون أن يقصدن مكان معين!!
دعــك من هذا يا صاحبي ولنعد لرام الله..
كنت أسير مع اهلي وسط الأسواق , وأشعر ان اللهفة تسبقني لأرى ذاك المكان الذي دفعني للمجيئ لرام الله ..
"كفاكم يا أبي تسوق .. هيا بنا لنذهب لهناك.."
***
وأخيـراً وصلنا المكان الذي سبقتني اليه عيوني وشوقي لرؤيته .. وضعتُ الكوفية على منكبيّ وهرولت مسرعة أسبق الجميع..
ألقيتُ التحية على أولائك الشرطيين الواقفين في مقدمة المكان .
دخلتُ المكان مع أهلـي.
حديقة خضراء في غاية الجمال .. نسيم عليل يلامس محياي..نصب تذكاري ضخم يتوسط الحديقة , نُقش عليه بالأحرف العربية الكبيرة:
"كـان يـاسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا وكان إسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة إلى فكرة الدولة , وفي كل واحدٍ منا شيء منه".
محمود درويش
نجحتُ حينها في قراءة تلك الكلمات رغم لهفتي وعدم إستقرار نفسي , يا إلــهــي ما أجملها وما أبدعها من كلمات ..
درويــش.. كلماتك هذه ومضات ضوء في الظلام الدامــس..!
صممتُ أن أتخذ صورة بجانب هذا النصب التذكاري .. وإتخذت.
ثم تقدمتُ خطوتين لأدخل في حجرة جدرانها زجاجية , يتواجد بها حارسين يرتديان الزي العسكري واقفين صامدين كالأشجار , لا يتحركان ولا يطرف لهما رمش .. فقط صدريهما يعلوان وينخفضان .. أي انهما يتنفسان .. يعني أنهما حيّان..!
ويوجد في الغرفة أيـضـا..
لوح من الرخام منصوب على الارض بشكل مائل , كُتب عليه : " هنا سجى جثمان الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات - 11/11/2004"
توقفتْ اللهفة..
إنخلغت أبواب الترقب..
وقع نظري على القبر .. وتوقف العالم لبرهة عن الدوران ..توقف القلب للحظة عن الخفقان .. إعصار يجول داخل خاطري..
يــاسر عرفـات .. رمز النضال الفلسطيني .. الأسد الضرغام , الذي يملك إرادة حديدية لا تنصهر بسهولة !
كنت أتأمل القبر بإرتباك .. تذكرت الشاشة الصغيرة عندما ظهر من خلالها قبل خمسة أعوام يصارع السُقم بجسده الواهـن..
تصفحت ذاكرتي على عجل .. وكأنني أبحث عن سبب موته الأكـيـد!
هل قتلوك يا أبي عمار ؟؟ أم أنك قد متَ بسبب تلك العلل ؟! أم أنكَ آثرتَ الموت على هذه الحياة؟
أبــو عمار .. هل تدري ما يدور حولك ؟ ها هي المقاطعة خلفكَ .. وتلك هي صورة "ابو مازن" الكبيرة المعلقة وسط المقاطعة .. هل رأيتها ؟ ها انا أراها عبر زجاج هذه الحجرة !
أهذا هو بيتك الذي أراه من هنا ..؟ أهذا هو البيت الذي حاصروك به وقاموا بوضع سياج من حوله , هذا البيت الذي تحول لمعتقل عسكري؟!
سيديّ أبي عمـار.. الكوفية قد صَبت لـكَ .. المنبر قد تحطم من بعدك.. آآآه يا سيدي بأي حال تركتنا؟!
ياسر عرفات.. رحمكَ الله يا قائد مسيرة الكفاح الفلسطيني .. يا من واجهت خصومك بكل عزم وصبر .. يا من جعلت التاريخ ينسج في كتابه اللانهائي مراحل مهمة من تاريخ فلسطين المعاصر.. رحمة الله عليك . رحمة الله عليك رغم أخطائك.. أسأل الله ان يغفر لك ويدخلك فسيح جناته.
أول مرة رأيتك بها كنت في السابعة من عمري عندما وقعت بين يدي صورة لوالديّ وانت تتوسطهم - كانت هذه الصورة في غزة .. وها أنا اليوم أراك ولا أراك.. أراك حيٌ في قلوبنا ..حيٌ في نضالنا.. ولا أراك بسبب هذه القطعة من الرخام..
ذهب تفكري عنده .. داخل القبر.. وأدركني الوقت ..فارقت أفكاري قليلا..و تنبهت لنفسي , قرأت الفاتحة على روح الشهيد ياسر عرفات ,وإلتقطت صورة جانب قبره ..
وقلت له .. هنيئا لـك الشهادة .. فوالله الموت أفضل من أن نحيا بحياة جائرة كهذه.. أفضل لك ان تكون بين ديدان القبور بدلا من أن تكون بين الديدان البشرية..
ارقد قرير العين أيها الزعيم .. ففلسطين سوف تتحرر بإذن الله.
رأيت أبي وامي قد اتجها للخارج .
فحدقت بالحرسين المتواجدين عند القبر .. ما زالا على حالهما .. لا يتحركان..
نظرت إليهما بطرف عيني..
وإنصرفـت.