بينَ ثلاثة قبورٍ
*الجزء الـثـالث والأخير *
يأتينا الحظ متأخراً قليلاً .. وأحياناً كثيرا..
وحين يفطن الحظ ان ياتينا , نستقبله بقلب متعدد الإنكسـارات..
قد نهضت من تحت أنقاض الحلم , لأعمّر بناءه من جديد.. ذاك الحلم الذي طالما راودني .. وقادني إلـى الأبديــة..
أنا التي ذهبتُ إلى هناك أبحث عن اجوبة .. قد عُدتُ بأسئلة أكثر..
أنا التي سعيت لأحقق حلمي.. وها انا قد حققته , لكن البطل غـائب..! وما زالت خيبات القدر تصفعني.
**
ما زلنا في رام الله..
أن تذهب لمدينة لم يحدث يوما ان رأيتها من قبل .. وأن تتسلل لأجواء تُغرقك نشوة .. وأن تلتقي بقائد عظيم وتسترجع أحداث ساسية نُقشت بين طيات دماغك..كل هذا لا بد ان يترك في نفسك كثيرا من فوضى المشاعر .. ويولد ترانيم تعزف الشوق والعشق والجنـون..مذهل هو عالم الجنون ..ذاك العالم القريب للإنسانية والنُبل!!
وصلنا إلى البيرة , مدينة تقع بالقرب من رام الله أو بصيغة اخرى هي أحد الأعضاء التي تستقبل دم من قلب رام الله , ويصل بين القلب والعضو شريان كبير يضخ الدم يُسمى على أرض الواقع بالشارع الرئيسـي..!
اقتربنا من قصر رام الله الثقافي .. إنتابتني أحاسيس غريبة .. نظرت يميني ونظرت يساري ..رأيت الاشياء تمشي بسرعة ..ودقات قلبي تتسارع .. دقة شوقا ..ودقة خوفا !!
ها هـو القصر أخيـراً..نزلتُ من السيارة وانتظرت أهلي ريثما ينزلون.. يـا إلـهـي ما أطول أرواحـهم..!
دخلنا القصر الثقافي , أكاد لا أجتاز باب القصر حتى أشعر أنني أغادر عـالماً..وأدخل آخر.
إذاً هذا هو القصر الثقافي , هنا وقعت خطوات أقدام تميم في الشهر المنصرم , وخلف هذا الباب ألقى قصائده على مسامع الجالسين ..وفي هذه القاعة الكبيرة أهدى أربع قصائد لأربع زهرات قطفتها أيادي الحياة .. ألاولى مهداه لروح الشهداء الأبرار , والثانية مهداة لمن سألتقي به عما قليل , والثالثة مهداة لروح الشهيد ناجي العلي , والرابعة مهداة لروح الروائي الفلسطيني إميل حبيبي..
آآآه يا تميم لو علمتُ مسبقا أنك ستُحيى امسية في هذا المكان لكنت أول الحاضرين!
تجولنا في القصر الثقافي .. ثم خرجنا لنتجول خارج القصر ..
لنذهب لمـكـان..
يُزلزل الكـيـان..!
**
أصبتِ عزيزتي ليلكة الجليل..
صدقت مشاعرك عزيزي جواز سفر..
فصاحب القبر الثالث هو محمود درويش.
عبرنا داخل حديقة خضراء ..عشبها أخضر نضير..وفي آخر الحديقة قبر , كُتب عليه :
"محمود درويش
على هذه الأرض ..
سيدة الأرض
ما يستحق الحياة
13/3/1941-9/8/2008"
نظرت للقبر بتمعن لتسود قلبي رهبة عارمة .. لأكتم أنفاسي وتسيل من مآقيّ العبرات..
أشعر ان الكلمات مبتورة .. خالية من المعاني .. تتعذر عن النطق لأنها لا تفي حق التعبير للشعور الذي انتابني عند رؤيتي للقبر.
هي الأقدار نخسر بسببها وجوها نضرة .. لم تزل تعشق الحياة..
هي الأقدار التي سحبت بيد درويش لعالم آخر..
حتى الآن لا أصدق ان درويش تحت هذا الضريح الأصم .. لا يمكن هذا .. إنها احدى كذبات الحياة التي نتلقاها لنشعر بالمرارة..
درويش .. أنت متنكر في زيّ الموت .. ما زلت حيا .. انت قررت ان تسافر لعالم آخر لتعود لنا بإلهام جديد كي تكتب قصائد تحكي من خلالها عن رحلتك وسفرك هذين..
ها أنا انتظر ريثما تعود من السفر.. سأرقص على سبعة وستين وترا في هذه الحياة .. وأنشد كل يوم فصيدة من قصائدك لتواسيني وتؤنس وحشتي ..ريثما تعود..
درويش رأيتُ حرفك يطاول برأسه ليتجاوز السحاب ويلمس النجوم..رأيتُ اسمك معلق في الثريا..هل يهون على نفسك ان تترك حرفك وتترك اسمك وتسافر؟!
حزنــي عليك يا درويش..
حزني على حي سافر لعالم الأموات..
تبـاً لحظي .. لماذا أتيتني متأخراً؟ لماذا أتيتني عندما قرر القدر ان يجعل بيني وبين درويش موعدا بعد سفره .. موعدا لا يشبه المواعيد ..؟ ما أحمقك أيها الحظ..!
غادرتنا يا درويش!! غادرتنا وتركتنا نرشف أقداح الألم والعلقم..وفي كل رشفة نراك ..
فأنا لم يحدث يوما أن رأيتُ رجلا مثل هذا الرجل ..في عنفوانه الجذاب.. وحضوره الأخاّذ . وقدرته على نسج قصائد تملك المهجة والفؤاد بسرعة الضوء!
درويش.. اجوع الآن إلى وجهك .. إلى صوتك..إلى قلمك..فهلاّ عدتَ من هذا السفر الطويل..؟أنتظر منك جوابـا..
إنتظرتُ .. ولم يأتني جواب..وبقيتْ صورته صامته امام عينيّ..وعدت لأرض الواقع ..نظرت خلف الأفق..سمعت صوتا لا أعلم من أين أتاني ,,"واعشق عمري ..لأني اذا مت اخجل من دمع امي" اعرف هذا الصوت..انه صوت درويش..أخجلت من دمع امك يا درويش؟
لماذا تركتنا يا ناصر القضية؟
أتعلم ماذا فعلوا بذكرى رحيلك الاولى يا من وهبت حياتك للوطن؟؟
لقد رفعوا العلم الإسرائيلي...!!! أيفرحك هذا؟
أيفرحك أن تترك فلسطين تحتضر؟
لماذا ذهبت .. وكيف؟
أأحيى بأرضٍ ما عادت تطؤها قدماك؟
أأحكي لغة قد هجرتها؟
أأتنفس هواء لا يدخل صدرك؟
كيف يا درويش احيى دونك؟
أخبروني بربكم كيف نحيى دون درويش؟
آه قد ملت شواطئ دموعنا وأنت مغترب عنا ..
فطلبنا ..كل طلبنا وأملنا ان تجود بلقاءٍ يُحيي عودنا ويمد بقوتنا لنضمن البقاء لتارةٍ أخرى..!
ها نحن ما زلنا ننتظر اللقاء .. الذي طال انتظاره..ختى ضاع بين شهقات الأنين.
أقرُّ بأنني ضبتُ نفسي امام قبر درويش لانني أؤمن انه لم يمت..فهو ما زال حيا..لذا لم ابكي بحرقة إلا اني ذرفت بعض العبرات!!
كررت قراءه الفاتحة مرتين على روح الكبير محمود درويش.. واحدة لروحه الحية..والاخرى لروحه التي ارتفعت للمولى..ونطقتُ بأدعية تخفف الألم..ومسحت بطرف البنان مدامعي..وألقيت نظرة أخيرة على قبر درويش ..نظرة أمل بالعودة..وقلت - لن اقول شيئا لك يا درويش حتى تعود..وانصرفت من قبر الميت..لأعود لبلدي.. مقبرة الأحياء!
أيأتون الرجال ليرحلوا؟! أيأتون شرفاء هذه الامة ليفارقوا الحياة ويعذبونا؟ بين تلك الثلاثة قبور تعلمت الكثير..تعلمت ان الحياة كالمسألة الحسابية..نأخذ من اليوم عبرة ومن الامس خبرة .. نجمع لهن الحب والوفاء ونطرح منها الحزن والشقاء ونترك الباقي لرب السماء..
بين ثلاثة قبور لامست الحياة العريقة والتاريخ المُشرّف..والأمل المشرق.. لذلك قررت أن أملأ كأس حياتي بالنضال.. لذلك قررتُ أن أكتب هذه الخاطرة لأعيدهم للحياة .. لذلك قررتُ أن أحـيـى..!
إنتهت.
26/8/2009